نقلاً عن “مجلة فرجة”
لماذا يبدو ذهابي إلى دار عرض سينمائي لأول مرة في حياتي كحدث جلّل؟.
أمامنا أكثر من ألف كلمة لشرح القصة والعنوان .
أصبتُ في طفولتي المبكرة بعاهة اليتم ، ثم خرجتُ ككل الأطفال إلى الشارع للعب مع أولاد الجيران ، كان توقيت خروجي خاطئًا ، لأنني لم أكن تعافيت بعد من اثر العاهة ، ولذا فقد ظننت أن مجيء كلمة ” أب ” على لسان أي رفيق ، ما هي إلا معايرة مستترة لي .
ولكي أضع النقاط على الحروف فقد تجبرتُ وطلبت من الرفاق ألا يذكروا الآباء ، استجاب لي بعضهم على مضض ، ونسى الآخرون مطلبي فحلقت الكارثة فوق جلساتنا ونعق غراب الشقاق فوق ألعابنا الفقيرة أساسًا .
كنت إذا ذكر أحدهم أباه أكور يدي اليمني بطريقة تلقائية وآلية تمامًا وأسدد لكمة قاسية لأنفه ، فينزف الدم وتشتعل المعركة وأشعر براحة غريبة بوقوع الخصام .
صبر الرفاق على سوء خلقي مرة واثنتين ولكنهم في النهاية قاطعوني بدعوى جنوني المؤكد .
مقاطعة الرفاق مع وصمي بالجنون جعلتني طفلًا متوحدًا.
ألوان توحدي تمثلت ْ في سماعي للراديو ( لم نكن قد عرفنا التلفاز بعد ) منذ قرآن السادسة صباحًا وحتى سباعية التي تبثها إذاعة صوت العرب في الثانية عشرة من منتصف الليل ، كان عكوفي يتخذ سمت نبي صغير يتلقّي وحيًا مُنزلًا .
أتكلم مع صور أغلفة المجلات والكتب الملونة ، وما كان أكثرها في بيتنا .
أسمع مناقشات إخوتي الكبار أفهم قليلها ويستعصى عليّ معظمها ، ولكنها جميعًا تسكن ذاكرتي بدون إرادة مني .
إذًا لا رفاق ( فأنا عندهم سيء الخلق مجنون ) ولا ألعاب ( حتي لو كانت أحصنة طينية ) ولا تقارب بيني وبين إخوتي في السن ، أكبرهم ( سيصبح أبي ) بيني وبينه عشرون سنة ، والذي قبلي مباشرة تفصل بيننا ست سنوات ، أنا ابن لكل هؤلاء الذين لا يكفون عن الكلام ، إنهم يتكلمون دائمًا لا يسكتهم سوى النوم ، يتحدثون عن الذي فوق العرش وعن الذي تحت الثري !!
في أحاديثهم عن السينما لا يتفقون سوى على شيء واحد اسمه المخرج .
اسمعهم يقولون بنبرات قاطعة :” المخرج هو الكل في الكل ، المخرج هو ملك الفيلم المتوج ، لولا المخرج لهلك الفيلم ، هذا المخرج أمات الفيلم و………..”.
على ماسبق فمن حق طفل له عشر سنوات مصاب بعاهتي اليتم والتوحد أن يؤمن أن المخرج هو بطل الفيلم .
أصبح وجودي في غرفة الكتب والمجلات محتضنًا الراديو من العلامات الجغرافية لبيتنا التي ترقى لدرجة البديهيات التي لا يناقشها أحد ، ولذا كان الأمر غريبًا جدًا عندما قال لي شقيقي الحاج مندي ( يكبرني بحوالي خمس عشرة سنة ) :” لابد أن تغادر هذه الغرفة ، ستغادرها اليوم ، بل الآن ، اذهب يا سيدي إلى ، إلى ، إلى السينما مثلًا ، لماذا لا تذهب إلى السينما ؟”.
فوجئت بتطور سريع للأحداث بانعقاد مجلس أسري لتقرير إرسالي إلى السينما .
رحب الجميع بقرار الحاج مندي الذي موّل الرحلة بنصف جنيه كاملًا غير منقوص .
بيت أبي في قرية التمساحية التابعة لمركز القوصية التابع لمحافظة أسيوط ، وفي القوصية دار السينما الوحيدة ، والرحلة شاقة لأن بيننا وبين القوصية عشرة كيلو مترات .
مثل خارج من كهف يواجه سطوع الشمس ركبت الحمارة ( هناك عداء صليبي بين عائلتي واقتناء ذكور الحمير ) وتوجهت إلى القوصية مزودًا بنصيحتين ثمينتين ، الأولى ألا أتشاجر مع العيال الذين يذكرون آباءهم ، الثانية ألا يفلت مني مشهدًا من الفيلم لأني سأقص أحداثه كاملة على أسرتي عندما أعود .
رتلت ما أحفظ من القرآن لكي يوفقني الله وألتزم بتنفيذ النصيحتين .
كان قلبي يدق بعنف كذاهب إلى مجهول ، سوف ألتقي بالمخرج وأراه وأعود لأخبر أسرتي بتعرفي عليه .
السيارات النادرة التي تمر بالشوارع وحوش من الحديد لا شأن لنا بها ، حمارتي الآن لدي خالتي ” تناظر” التي ترعى الركائب مقابل قرش يوميًا ، مالي الكثير في جيبي رغم شرائي للأهرام والأخبار والجمهورية لأسرتي وللكرة والملاعب لي لأتابع أخبار فريق الزمالك ناديّ الحبيب ، وفي قلبي شغف لا مزيد عليه لكي أري المخرج .
سينما القوصية من سينمات الدرجة الثالثة ، ولكن الهوى قتّال يا صاحبي ، فدع عنك التصنيف ورائحة السجائر والعرق بل والبول ( بعضهم كان يفعلها في الزوايا ) ودع عنك تهالك المقاعد وتساقط الطلاء وضجيج البائعة وتوحد مع الطفل المتوحد الذي يدخل السينما لكي يرى المخرج كما يظن هو ولكي يشفى من توحده كما يتوقع أهله .
السينما تعرض ثلاثة أفلام ، فيلم قديم هو ” التلميذة ” يليه فيلم بالألوان الطبيعية لم أعد أذكر منه سوى أن بطلته شمس البارودي تجري في الشوارع شبه عارية وهي تلطم خديها وتصيح :” مستقبلي ضاع يا ماما”
والفيلم الثالث وهو بالألوان الطبيعية أيضًا عن تحدي بروسلى لشيء ما.
أفيش فيلم التلميذة عليه أسماء شادية وحسن يوسف وفؤاد المهندس وأمينة رزق ، وهؤلاء أعرفهم جميعًا من مسلسلات الراديو ومن صورهم المنشورة في المجلات والجرائد ، ولكن أين صورة المخرج ؟.
لا أظن أن التذكرة كانت بأكثر من عشرة قروش ، دفعتها راضيًا ودخلت إلى القاعة المظلمة ، اخترت مقعدًا وجلست عليه وأنا لا أعرف من أي زاوية سيظهر الممثلون ( ليتني سألت إخوتي ) غالبت خجلي وسألت جاري فقال إن جلستي سليمة وإن الممثلين سيظهرون من تلك اللوحة البيضاء.
كدت أسأله عن المخرج ولكن تراجعت ، ليقيني بأنني سأعرفه من تلقاء نفسي .
ثم جاء الفيلم جاء ، ثمة استعلاء يغزو المتوحد تجاه جيرانه في القاعة ، المتوحد يصاحب شادية منذ زمن بعيد ، يستنكف المتوحد أن تعامله كما تعاملهم ، يريدها أن تنظر إليه نظرة خاصة ، أليس بينه وبينها ود قديم من يوم غنت ” غاب القمر يا ابن عمي ” ؟
سيغفرها لشادية جزاء مرحها ، إنها هنا مرحة ولا تنوح كما ناحت :” والله يا زمن ما بادينا زرعنا الشوك ولا رواينا يا زمن “.
شادية ابنة الخادمة أمينة رزق تحب ابن الباشاوات حسن يوسف ، أم حسن ترفض هذا الحب ، شادية لا تحب أمها ( هذا ثقيل جدًا على قلبي فأنا أحب أمي ) والد شادية مات ، ما العمل ؟ هكذا أنا ممزق بين التعاطف مع يتيمة مثلي والنفور من كارهة أمها ، شادية تهرب وتصنع شيئًا يبدو كالعيب ، ما هو العيب ؟.
العيب هو أن تكشف المرأة شعرها ، فما بالك لو كشفت عن كتفيها وفخذيها ، ثم العيب أن تكره أمها والعيب ألا تقبل يد أمها ، ولكن الحب ليس عيبًا ، إخوتي يتحدثون دائمًا عن الحب جهارًا .
يجب أن أهدأ لكي لا تضيع مني خيوط القصة ، ولكن أين المخرج ؟
هدفي الأول هو مشاهدة المخرج ، ولذا تجرأت وسألت جاري :” أين المخرج ؟ ”
رد متأففًا :” أي مخرج ؟ ”
قلت :” مخرج الفيلم “.
قال :” اسمه حسن الإمام ”
قلت :” ولماذا لم يظهر حتى الآن ؟ “.
قال بغضب :” المخرج لا يمثل ، واقعد ساكت “.
قعدت ساكتًا والدموع تنزل على قلبي ، شفقة ورحمة بالبنت المسكينة اليتيمة التي عن ارتاحت يومًا شقيتْ يومين ، أريدها الآن أن تعود مرحة وتغني :” سونة يا سونسن جتلك أهو “.
لقد اختفى بريق عينيها ، وشاختْ ” قُصة ” شعرها ، هل هناك رجل عجوز يريد أن يفعل معها العيب والحرام ، هل تنكفئ كأمها الخادمة غاسلةً وساخات الناس ؟.
أنا حزين من أجل شادية ، حتى لقد نسيت أمر المخرج الذي لم يظهر ، هل جاء ” سونسن ” إلى بيت أمها ليطلب يدها ؟ أم هذا ما أحلم به لكي تعود مرحة مرة ثانية .
أظلمت الشاشة معلنة انتهاء فيلم شادية ، لم أتحرك ، لقد أقعدني الحزن ، ما كان لي أن أطيع أمر الحاج مندي وأترك حديثي مع أغلفة مجلاتي .
أضاءت الشاشة فرأيت شمس البارودي ( في بيتنا كارت بوستال لها ) وهي تجري في الشوارع شبه عارية لاطمة خديها ، كل هذا كثير وثقيل على طفل متوحد .
عدت إلى بيت أبي بغير الوجه الذي غادرته به ، لم يجرؤ أحد من آبائي على سؤالي ، لقد خلوا بيني وبين أغلفة مجلاتي وصوت الراديو ، أنام دامع القلب لمصير شادية ، وأصحو منتظرًا أن تمرح وتضحك وهي تغني سونة يا سونسن جتلك أهو “.
مرتْ أربعون سنة على رحلتي الأولى إلى السينما ، شادية الآن في الخامسة والثمانين وأنا الآن في الخمسين وما تزال السينما هى كهفي الذي أتخلص فيه من توحدي متوحدًا مع ظلال وأضواء ومرح بنت شقية يتيمة .
حمدي عبد الرحيم يكتب : لابد من علاء الديب وإن طال السفر
.