عندما شرع فى كتابة خطاب تنحى الرئيس «جمال عبدالناصر» فى يونيو (١٩٦٧) لم يكن قد استقر تفكيره على وصف الهزيمة العسكرية بـ«النكسة».
سألته: «كيف طرأ التعبير إلى ذهنك فى تلك اللحظة القاسية؟».
أجاب ببساطة متناهية: «لست أدرى».
لم يكن هناك وقت يسمح بالتفكير والتدبر، ولا أعصاب تحتمل البحث فى المصطلحات والتعبيرات.
كان كل شىء يقارب الانهيار، فالأحلام الكبرى تقوضت فى صحراء سيناء، ومشروع يوليو يوشك أن ينزوى و«عبدالناصر» بدا مستعدا أن يتحمل «المسئولية كاملة» لا قسطه من المسئولية، بحسب النص الأصلى الذى عدله بخط يده.
لم يكن «عبدالناصر» يناور بـ«التنحى»، ففى اعتقاده أن النظم التى تعجز عن حماية حدودها تفقد شرعيتها، بحسب شهادة الأستاذ «محمد حسنين هيكل» الذى حاوره منفردا فى ذلك اليوم الطويل.
سألته مجددا: «ألا يمكن أن تكون قد تأثرت بما ورد فى الميثاق الوطنى الذى صغته وفق الاستخلاصات الأخيرة للمؤتمر الوطنى للقوى الشعبية مطلع الستينيات عن نكسة ثورة ١٩١٩».
أجاب بلا تردد: «لا».
«جلست هنا وحيدا»، مشيرا إلى ركن يواجه مكتبه على نيل الجيزة.
«أخطر ما كنت أخشاه أن يخيم اليأس على مصر من أن تعود إلى ميادين القتال وأن تستبد روح الهزيمة بالإرادة العامة للمصريين».
رغم كل الحملات الممنهجة على تعبير «النكسة» فإنه كان لازما لتأكيد إرادة القتال من جديد، وأنه يمكن تصحيح الأسباب التى أدت إلى الهزيمة العسكرية، و«إزالة آثار العدوان»، بحسب التعبير الشهير.
«النكسة» وضع مؤقت و«الهزيمة» استسلام نهائى.
وقد أسعفته ثقافته العسكرية واتساع نظرته السياسية فى نحت أكثر التعبيرات إلهاما لتجاوز الهزيمة.
نفس النظرة الاستراتيجية تبناها الفريق أول «عبدالمنعم رياض»، الذى صعد عقب النكسة إلى موقع رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية، استنادا إلى تجارب شعوب أخرى تعرضت لهزائم فادحة لكن روحها العامة لم تنكسر وأعلنت المقاومة مجددا.
كان صعود «رياض» تعبيرا عن ضرورات إسناد المناصب العسكرية الكبرى للكفاءات القادرة على تحمل مسئولية القتال.
وضع «عبدالناصر» ثقته فى رجلين هما الفريق أول «محمد فوزى» قائدا عاما، برهان أن شخصيته الحازمة تعيد الانضباط المفقود إلى القوات المسلحة وتساعد فى إعادة بنائها على أسس حديثة، والفريق «عبدالمنعم رياض» برهان آخر على كفاءته فى التخطيط العسكرى والقيادة الميدانية للقوات المحاربة.
بيقين فإن «هيكل» كان الأكثر حماسا لوضع «رياض» فى هذا الموقع العسكرى القيادى، وربما زكى اسمه لدى الرئيس فى لحظات الاختيار الصعبة.
بتقدير «رياض» فإن جولة جديدة من الحرب فى سيناء محتمة لاعتبارين لا يمكن تجاهلهما.
الأول: استعادة الأراضى المحتلة فى سيناء بقوة السلاح، وذلك هو نص تكليفه برئاسة أركان حرب القوات المسلحة.. والثانى: استعادة الثقة فى النفس وضمان سلامة المجتمع بالنظر إلى مستقبله، وذلك موضوع نقاش مستفيض أجراه مع «عبدالناصر».
بكلمات قاطعة فى معانيها ومباشرة فى رسائلها: «أرجوك يا سيادة الرئيس ألا تقبل عودة سيناء بلا قتال حتى لو عرضوا عليك الانسحاب الكامل منها بلا قيد أو شرط».
فـ«عودة سيناء بلا قتال تفضى إلى انهيارات اجتماعية وأخلاقية وخسارة أى قضية فى المستقبل».
«لا مستقبل لشعب يتعرض لاحتلال أراضيه ثم لا ينهض لحمل السلاح مستعدا لدفع فواتير الدم».
بعض أسباب الانهيارات الأخلاقية فى بنية المجتمع المصرى بعد حرب أكتوبر تعود إلى أن الذين حصدوا غنائمها لم يكونوا هم الذين عبروا الجسور فوق القناة.
بحسب شهادة لـ«هيكل» كتبتها فى حياته وراجع نصوصها بنفسه، فإن ما يميز «رياض» عن غيره أنه «ينظر إلى بعيد».
«كضابط مدفعية فهو يقصف ما لا يرى، وذلك يستدعى أن تكون حساباته للمسافات صحيحة ومعرفته بالمواقع مؤكدة».
«المساحات أمامه متسعة داخلة فى الكون، والسماء تنطبق على الأرض، والمدافع التى تقصف ما تستطيع أن تصل إليه، والصواريخ التى تجتاز حدودا وبلدانا حتى تصل إلى مواقعها، دعته إلى إدراك أهمية الجغرافيا وخرائطها».
«بحكم ثقافته واطلاعه، وهو قارئ تاريخ مهتم ومدقق، فإن الصلة بين التاريخ والجغرافيا حاضرة فى حواراته».
«عرفت عبدالمنعم رياض لأول مرة عن طريق خاله حسن صبرى الخولى، الممثل الشخصى لجمال عبدالناصر، وكان إعجابه بزعيم يوليو ظاهرا فى كلماته وإيماءاته، يؤيد تجربته ومقتنع بها ويشاركه الأفكار ذاتها، وإن أردت أن تستخدم المصطلحات السياسية الحالية فإنه ناصرى».
«ثم رأيته مرة أخرى فى سكرتارية مؤتمر القمة الأول فى يناير ١٩٦٤، لمحته مرات فى مكتب عبدالحكيم عامر قبل أن أعرفه عن قرب وأحاوره طويلا فى الاستراتيجية والأمن القومى ومستقبل الصراع العربى ــ الإسرائيلى وتصوراته عما بعد حرب الاستنزاف وإعداد القوات المسلحة لخوض حرب تحرير أراضيها المحتلة فى سيناء».
«كان رياض هو الرجل الذى توصل إلى أنه إذ لم يكن بوسع قواتنا مجاراة إسرائيل فى قدرة سلاحها الجوى فإن بمقدورها إلغاء أثره وفارق تفوقه اعتمادا على الدفاع الجوى وشبكة صواريخ متقدمة، وهو الرجل الذى وضع الخطوط الرئيسية لخطة عبور قناة السويس وتحرير سيناء التى طورها الفريق سعد الدين الشاذلى فى حرب أكتوبر».
عندما استشهد على جبهات القتال فى مارس من عام (١٩٦٩) خرجت الملايين تودعه فى ميدان التحرير، ربما لم تسمع اسمه من قبل لكن معنى استشهاد رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية على جبهة القتال الأمامية كان محزنا وملهما فى الوقت نفسه، أعاد للمصريين ثقتهم فى قواتهم المسلحة وقدرتها على تحرير الأراضى المحتلة.
أخذوا يهتفون من قلوبهم: «رياض مامتش والحرب لسه مانتهتش».
فى تلك الأيام أنشد الشاعر السورى الكبير «نزار قبانى» باندفاعاته التى تمس خلل الأداءات العامة:
«الخطوة الأولى إلى تحريرنا.. أنت بها بدأت يا أيها الغارق فى دمائه جميعهم كذبوا وأنت قد صدقت».
لم يكن بوسع الأستاذ «هيكل» حتى أيامه الأخيرة إخفاء مشاعره الإنسانية العميقة لكل ما مثله «رياض» فى سيرة حياته.
كلما تذكر حوارا معه أو ذكر اسمه فى سياق عام ينظر أمامه كأنه يطل فى مرآة الماضى بشىء من الحزن.
لحسن حظ الذاكرة الوطنية أن الأستاذ «هيكل» هو الذى تولى رواية قصة قائد عسكرى استثنائى يوصف عن حق بـ«الجنرال الذهبى».
.