بدأت صداقتنا بعد أن تجاوزت الخامسة والعشرين بشهور قليلة، تعرفت عليها بعد أن اضطررت الجلوس فى أحد مقاهى وسط البلد، هربا من زخات المطر التى كانت تشبه دموعى الحبيسة بعينى وقتها، تزاحمت الأفكار برأسى وعمت الفوضى روحى، طلبت فنجانا من القهوة التى اعتدت أن تشاركنى لحظات وجعى وإنكسارى وتمزج مرارتها بمرارة ما أشعر.
وقتها سمعت صوتها يشدو من بعيد على وتر القلب المتهالك، ” ضحكات الصبيان وغنانى زمان .. ردّتلى كتبى ومدرستى والعمر اللي كان”، فتلفت يمينا ويسارا أبحث عن تلك المرأة التى تشاركنى نفس الاحساس، كيف علمت أن ذلك ما يدور برأسى الآن، لاجدها تختبىء فى راديو قديم بأحد أركان المقهى ومنذ تلك اللحظة أنا وفيروز والقهوة ما حدا بيفرقنا.
فيروز تبقى الوحيدة التى عندما قامت بالغناء لحبيبها لم تقم بإهانته حتي في أشد لحظات جرحها منه، لم تناديه سوى حبيبي، وحين تركها ورحل عاتبته قائلة “كيفك أنت”، وفى أشد لحظات انتقامها اكتفت بقول “مش فارقة معاي”، لم تقم بالعويل وفضح حبيبها وإظهاره بأبشع الصفات.
لم يكن ضعفا منها بل قوة من نوع خاص .. فالقوة لا تكمن فى الغضب وردود الأفعال الطفولية والصراخ والصوت العالى .. بل فى أن تلتزم الهدوء وقلبك يشتعل، تبتسم وهناك سرادق عزاء فى يسار صدرك، هكذا كانت فيروز القوية كفراش تترك اثرها فى كل مكان تتركه.
يُسكب صوتها مع قهوتك فى روحك تسمعها بأوتار قلبك لا أذنيك، تذيب قضبان الوجع التى خلفها الزمن على قلبك الصغير ليصبح له جناحين ويحلق بعيدا عن مدن القهر والخذلان، نشبه بعضنا كثيرا فهى وأنا نعتبر الحب وطن نعيش فيه تجارب وذكريات تستحق أن نضحى بأرواحنا من أجله و كلاهما محراب مقدس لا يسكنه سوى الصادقين ويُحرم إهانته .
كل صباح تأخذك إلى محراب المحبوب لتصلى من أجله وتدعو له، وعلى الرغم أنها تهواه بلا أمل، لم تكف عن الدعاء له، تتألم معها حينما تقول “رغم الحاصل من زمان ..والوقت الكافي للنسيان وعزة نفسي كإنسان اشتقتلّك”، وسرعان ما تقوم بنفض غبار الخوف من قلبها وهى تقول “جايبلي سلام عصفور الجناين .. جايبلي سلام من عند الحناين .. نفض جناحتو عا شباك الدار ..و متل اللي بريشاتو مخبي سرار سرار”.
فهى المرأة العفوية التى تتصرف بفطرتها فعندما تريد أن تعاتب حبيبها على إهماله لها لم تقل له أنه ظالم أو قاسى بل بدأت تحكى له عن فستانها الجديد الذى يعجب الجميع إلا هو، وكأنها تقول له “ماتحن على القلة ده الغريب حن” تلك الأغنية التراثية التى نعرفها جميعا.
ورغم الرحيل مازالت تتشبث بوعود الهوى المتهالكة، تشعر أن صوتها منهك وهى تقول “، سألوني الناس عنك سألوني قلتلن راجع أوعى تلوموني”، تدافع عنه رغم وجعها منه فتعاتبه قائلة “بيعز علي غني يا حبيبي .. و لأول مرة ما منكون سوا، فتلك التى عشقت بلا أمل نثرت بذور العشق ونور الأمل فى قلوب الكثيرين.
الكثير والكثير من الكلمات التى تغنت بها فيروز كانت كقنابل الياسمين، تزلزل أرواحنا لتحطم أسوارالكره والخوف التى شيدها الزمن، وتذيب جليد التبلد الذى غطى قلوبنا لنرى النور، ونهرول نحوة كطفل صغير يرى والده جالسا فى قهوة على المفرق، فهل كل فتاة تحتاج رحبانيا لتصبح فيروز؟، أم كل فتاة تحتاج أن تجد نفسها أولا لتجد رحبانيا يشكلان سوى ملحمة عشق يسطرها التاريخ.
.