تواترت الأنباء المتعلقة بسير مفاوضات السلام السورية بكثرة خلال الأيام القليلة الماضية، وهو ما بدا واضحا من الزخم الإعلامي الذي صنعته أحدث جولة من مباحثات جنيف غير المباشرة بين طرفي الصراع وبوساطة روسية أمريكية. وقد عزز آمال حلحلة الأزمة التي دمرت سوريا على مدار السنوات الخمس الماضية، الإعلان الروسي عن بدء سحب الجزء الأكبر من القوات المقاتلة هناك؛ حيث أكدت موسكو أن أهداف التدخل الروسي في سوريا تحققت وأنها آتت أكلها.
ويتزامن ذلك مع أنباء غير مؤكدة عن خطوة مماثلة من حزب الله، ذراع إيران العسكري في سوريا، وأن المليشيات التي تقاتل في صف الرئيس السوري بشار الأسد على وشك أن ترحل هي الأخرى عن ميدان المعارك التي كانت مستعرة قبل سريان الهدنة الأخيرة.
الشاهد هنا بعد كل هذه المعطيات، أن الوضع في سوريا يسير نحو الحل السياسي، وإن طال أمده، فهدف واشنطن وموسكو ومن ورائهما الأمم المتحدة، في الوقت الحالي هو وقف الأعمال القتالية، وهو ما تحقق نسبيا، مع الوضع في الاعتبار رغبة هذه الأطراف في تحقيق نتائج آنية تتمثل في جلوس المعارضة السورية- لاسيما الفصيل الأقوى فيها المدعوم من السعودية- على طاولة المفاوضات، سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة مع النظام السوري.
الولايات المتحدة من جانبها تضغط في اتجاه الحل السلمي منذ شهور عدة، خاصة بعد دخول الدب الروسي المشهد وقلب الموازين العسكرية هناك، حتى باتت كفة الأسد في وضع الرجحان، أمام المعارضة المتشرذمة والتي تكبدت خسائر في الأرواح والمعدات في أعقاب القصف الروسي. وهذا الضغط واكبه منذ يومين القرار الروسي بسحب القوات؛ إذ أكد الكرملين أن الخطوة تهدف أيضا إلى الدفع نحو الحل السياسي حتى تضع الحرب أوزارها.
الضغط الأمريكي ليس بجديد، بل هو امتداد لسلسلة من اللقاءات المكوكية وغير المكوكية لجون كيري وزير الخارجية الأمريكي في الشرق الأوسط، في محاولة تظهر أن الإدارة الأمريكية الحالية عازمة على وضع اللبنات الأولى للحل الدائم في سوريا قبل وصول الساكن الجديد إلى البيت الأبيض نهاية العام الجاري، وعلى ما يبدو أيضا أن التحركات المكثفة تترجم محاولة الرئيس الأمريكي باراك أوباما التخلص من الوحل السوري الذي لطخ رداءه الرئاسي، وذلك قبل تقاعده والتفرغ لكتابة المذكرات أو العودة لمهنة المحاماة أو حتى ممارسة أنشطة خيرية على غرار رؤساء أمريكيين سابقين.
أمريكا تمارس ضغوطا على المعارضة السورية لإجبارها على القبول بأي قرارات تخرج عن محادثات جنيف، والدليل على ذلك إعلان المعارضة في جنيف أنها “ليست ضد” المفاوضات المباشرة مع النظام السوري، الأمر الذي يبرهن ما آلت إليه المعارضة من ضعف ووهن ليس فقط على المستوى العسكري ولكن أيضا على الصعيد السياسي وامتلاك أدوات الضغط. كما أن هذا يعني أن الولايات المتحدة تريد أن تقول للمعارضة السورية “الآن أنتم والنظام وجها لوجه، فما عساكم فاعلين؟”.
إن ما يحدث ربما يكون هدفه الرئيسي إحراج المعارضة من خلال إلزامها بضرورة قبول النتائج المتمخضة عن هذه المفاوضات، ولا ينبغي أن نغفل في هذا الاطار أن وفد المعارضة شكا خلال الأسابيع الماضية من الضغوط المتزايدة عليه من كيري، علاوة على أن خروج روسيا وكذلك حزب الله- إذا صح ذلك- من أرض المعركة في سوريا، يعني أن الأسد بات قادرا على القتال بمفرده، أو على أقل تقدير فرض الحماية على مناطق النفوذ التي يريد السيطرة عليها بعد التسوية المرتقبة للأزمة.
وفي هذا السياق أيضا، يجب تسليط الضوء على تصريح المعبوث الأممي إلى سوريا ستافان دي ميستورا بأن المنظمة الدولية لا تملك خطة بديلة حال فشل مفاوضات جنيف، وأن البديل يتمثل في العودة إلى حرب “أشد ضراوة”، كما قال إن الحل وقتها سيكون اللجوء إلى روسيا وأمريكا وكذلك مجلس الأمن، وهو أول تصريح للرجل يكشف فيه عن نيته لفتح الباب أمام تدخل جديد لمجلس الأمن في القضية، لكني أعتقد أن هذه المرة لن تكون مجرد قرارات على ورق، بل ستكون قرارات سيجري تنفيذها استنادا إلى الفصل السابع من الميثاق الاممي، أي الحل العسكري وإن كان بنسبة ضئيلة.
ربما تكشف الأيام المقبلة مزيدا من التفاصيل، لكن الواضح أن المعارضة لم تعد تملك الغطاء السياسي ولا العسكري القادر على دعمها وتقوية شوكتها في مفاوضات جنيف.. فالدعم السعودي لا يبدو أنه قادر على المضي قدما في ظل أزمة اقتصادية تعاني منها المملكة، مع هبوط النفط، وكذلك الجبهة المفتوحة في اليمن. أضف إلى ذلك انعدام الدعم التركي، لاسيما بعد بروز أكراد سوريا في المعادلة بدعم روسي، وعدم قدرة تركيا على مزيد من التصعيد في مواجهة روسيا بعد التوتر العنيف الذي شاب علاقتيهما مؤخرا. أما الولايات المتحدة فلا مجال للحديث عن دعمها لقوى المعارضة السورية، ففضلا عن الإخفاق الذي مُنيت به بعد الفشل الذريع لبرنامجها العسكري لتدريب من تسميهم واشنطن بـ”المعارضة المعتدلة”، ورفع البيت الأبيض يده عن المعارضة وفي المقابل تقديمها إلى الأسد، فإن آمال انتظار دعم أمريكي لم تعد لها أساس تستند عليه.
لذلك، الحل السياسي المحتمل- الذي تدفع نحوه الولايات المتحدة وروسيا وحلفاء الأسد والنظام نفسه كذلك- لن يخرج عن سيناريوهات محتملة، منها التقسيم الفيدرالي؛ من خلال أقاليم سورية متعددة تتمتع بحكم شبه ذاتي، كما هو الحال في كردستان العراق، أو تقسيم البلاد خلال السنوات المقبلة إلى دويلات صغيرة مستقلة بما تعنيه من حدود إدارية ذات سيادة لكل إقليم وما شابه ذلك من إجراءات الهيمنة. لكن الأمل يحدوني في التوصل لاتفاق يقضي بتقاسم السلطة بين الأسد والمعارضة، رغم الدماء التي سالت بسبب الطرفين بغض النظر عن أيٍ منهما سفك أكبر قدر من هذه الدماء التي في معظمها بريئة ولم تكن تطلب سوى الكرامة والعيش الكريم.
.