كانت عقارب الساعة قد تجاوزت الخامسة صباحاً بدقائق قليلة حين أدار “محمد” محرك السيارة التي تنقلنا من الدقي إلى مشارف محافظة الفيوم.. في الخلف كان خالد المصور ومساعده بيتر قد غلبهما النعاس، وبجانبهما محمود فني الصوت يعبث في أدواته.. وفي الأمام إيهاب المخرج يتطلع إلى جنبات الطريق بهدوء لا يعبر عن حالة الفوران العقلي الذي يعصف بخلايا مخه وهو غارق في تفاصيل المشاهد المقبل على تصويرها في أعماق الفيوم.. أما أنا فجالس خلف السائق، متطلع بعيون خاوية إلى اللا شيء، عائدا بذاكرتي إلى 72 ساعة مضت حين بدأ كل شيء.
النوم سلطان.. لكن رنين تليفون متواصل أجبرني على التقاط الهاتف مجيبا على صوت منفعل بشدة، وانسابت حروف انفعالها بداخلي قائلة: محمود عايزاك في موضوع مهم جدا.. رددت بهدوء لا يتناسب مع انفعالها الشديد: خير يا دينا، أجابت: فيه مركز للأورام في الفيوم اقترب موعد افتتاحه ومقام بالكامل بالجهود الذاتية وطلبوا مني المساهمة في الدعاية للمركز وده عمل خيري أتمنى إني أشارك فيه، أجبت في هدوء: ابعتي لي التفاصيل.. أغلقت الخط وبدأت المهمة.
مركز أورام الفيوم، بدأت عملية إنشائه قبل 12 عاما حين خصص المحافظ آنذاك قطعة الأرض لحساب الجمعية العلمية الاجتماعية بالفيوم، لتخدم مرضى السرطان في محافظات شمال الصعيد الذين زادتهم رحلة الذهاب والعودة إلى القاهرة مرضا فوق مرضهم الخبيث، 12 سنة والبناء يعلو ويعلو حتى اكتمل وسرت في شرايينه دماء الوجود.. تبرعات من مؤسسات، هيئات، وأشخاص حتى اقترب “حلم اليقظة” – كما يحلو للدكتور صلاح أبو طالب الأب الروحي للمركز تسميته – من التحول لواقع يفتح أبوابه لمريديه.
انسابت هذه المشاهد في ذهني طوال الطريق حتى وصلنا مشارف الفيوم، كان الحماس مسيطرا على الجميع، وكنا جميعا نحفظ عن ظهر قلب خطة العمل التي شاركنا جميعا في وضعها لكي يخرج الفيلم التسجيلي إلى النور، مرضيا لتطلعاتنا.
كنا سبعة أفراد، المخرج إيهاب مصطفى والمصور خالد مختار ومساعده بيتر اسكندر وفني الصوت محمود نعمان وفني الإضاءة محمود ناصر، والكاتبة الصحفية الدكتورة دينا أنور التي حملت على عاتقها عبء تقديم تحقيق تليفزيوني يحمل إهدائها لأبناء محافظتها الفيوم.
انهمك إيهاب مع خالد في اختيار مواقع التصوير وزوايا الكاميرا واختبارات الصوت والاضاءة، فيما وقفت دينا مستعدة لإجراء اللقاءات، مستمعة في هدوء للكلمات التي ستلقيها على مسامع الضيوف، لتخرج منهم الإجابات المستهدفة في الـ سكريبت المكتوب، ودارت الكاميرا وتنقلت بين الأماكن والشخوص والمكاتب، وازدحمت ذاكرة الكاميرا بعشرات المشاهد والكلمات، وأعدنا التصوير أكثر من مرة في كل مكان ومع كل ضيف، إما بإشارة من إيهاب عن عدم رضاه فنيا، أو بإيماءة مني عن عدم رضائي تحريريا، أو بابتسامة من دينا معبرة عن ثقتها في نسج حوار أفضل.
ووسط كل ذلك كان المشهد الذي زلزل أعماقي بشدة، اتفقنا على التصوير في عيادة طبيبة مع عدد من مرضى السرطان في الفيوم، وما أن وصلت العيادة حتى تبين لي أن خيالي كان محدودا للغاية في رسم مشهد عيادة تستقبل مرضا، كنت أعتقد أن الوقت سيمضي في انتظار مريض يلج بأقدامه عتبات العيادة، لكن المفاجأة كانت في الزحام الشديد، لوهلة ظننت أني في عيادة أمراض باطنة أو صدر أو حتى أنف وأذن، ممتلئة عن آخرها بعيون يسكنها الأسى، وأجساد يستوطنها الوهن، كبار وصغار، رجال ونساء، حياة أخرى لا نعرفها ولا نستطيع حتى تبين ملامحها ولا أن نصف بدقة معالم حدودها المترامية بين جدران وأسرة ومقاعد لا تكفي لاستيعاب كل هذه الأعداد.
سألت الطبيبة في حذر عن حدود هذا المشهد الذي أراه خارج حدود غرفتها، فأجابت: “الفيوم يا أستاذ اعتبره معقل مرض السرطان في مصر، وأهلها يصابون به كما يصاب أهل القاهرة بالإنفلونزا تقريبا، المرض يفتك هنا ويصيب هنا ويقتل هنا، أملنا الحقيقي أن يفتح مركز الأورام أبوابه، أملنا تخفيف بعض من أوجاعهم وآلامهم بين جنبات الفيوم بدلا من رحلات الذهاب والعودة إلى القاهرة”.
الإجهاد والإعياء تنافسا معا في شق طرق محفورة بلا تنسيق على وجوه المرضى، تسمع عم “إميل” جاهدا أن تخرج منه كلمات تعبر عن حدود وهنه الواضح، تنصت للسيدة “آمال” وهي تحاول أن تنقل لنا أمنية علاجها داخل حدود وطنها الذي تعرفه وتضطر للخروج منه لرحاب القاهرة بطنينها وإزعاجها وتكلفتها التي تفوق قدرتها على مواصلة الحياة برفق، عم “إميل” يغتصب ضحكة تقابلها طرف ابتسامة من السيدة “آمال”، وبين إميل وآمال ترقد أحلام 172 ألف مريض بالسرطان في الفيوم وضواحيها كما قال الدكتور صلاح أبو طالب رئيس الجمعية العلمية للأطباء المتبنية للمشروع بتكلفة 60 مليون جنيه، وبقي أقل القليل ويستريح “إميل وآمال” من عناء السفر ومشقة الطريق.
انتهى التصوير وتجمعت الكلمات وتراصت المشاهد وتعلقت العيون، محافظ ينتظر تنفيذ وعود قطعت له من جهات عديدة، فالمستشار وائل مكرم محافظ الفيوم يحدوه الأمل في افتتاح المستشفى في أقرب وقت، مخاطبا مشيخة الأزهر ومستشفى 57357 لإرسال ما وعدوا به من معدات وأجهزة، ومدير الصندوق الاجتماعي للتنمية المهندس أشرف درويش يضع على مكتبه ملفا كاملا تتعهد سطوره بتحمل الصندوق تكاليف تشغيل الشباب داخل المستشفى، ونواب بالبرلمان يساندون ويدعمون، وطبيب خط الشيب فوديه، تلمع عيناه بالأمل في تحقيق “حلم اليقظة” يحمل اسم الدكتور صلاح أبو طالب، وشباب فيومي متحمس يملأ جنبات المستشفى صعودا وهبوطا حاملا الحلم بين ضلوعه، ووسط هذا وذاك كنا هناك، حاولنا قدر المستطاع، وضعنا ما استقيناه من خبرة العمل والحياة في تحقيق تليفزيوني متكامل عن المستشفى الوليد، نقدمه بكل فخر للمصريين جميعا، رسالتنا بسيطة للغاية، رسالتنا “ارسموا الابتسامة” على وجه إميل وآمال وإلى جانبهما 172 ألف فيومي ينتظر الخلاص من رحلة العذاب إلى غياهب القاهرة، ولسان حاله يكفيني رحلة الخلاص من عذاب المرض الذي استوطن جسدي.
.