إذا ابتلاك الله بأن تعمل “ديسكًا” مهمتك تأييف وتلييف أخبار الصحفيين، فاعلم أنك على أعتاب الإصابة بغضروف الرقبة وآلام الظهر وضعف النظر وجفاف العين، هذا بخلاف الضغط والسكر بسبب قسوة بعض المحررين الساديين.
هل أنت مستعد لأن تضيف إلى هذه القائمة احتمالية الإصابة بـ”تينيا” في القدمين، بسبب ارتداء الحذاء طوال ساعات “شيفتين”، في عز حر أغسطس اللعين؟
إذا كنت مستعدًا فأنا غير مستعد، وأواجه ذلك بأعظم اختراعٍ ابتكرناه وأروع ابتكارٍ اخترعناه، منذ خلق آدم إلى الآن.. الشبشب.
لكن جرت الموضة مؤخرًا على رفض ارتداء الصحفيين للشبشب في مكان العمل لأنه يؤثر سلبًا على البرستيج! ففي الوسط الصحفي لا يتأثر البرستيج بالنفاق والوصولية، ولا الكذب والمحسوبية. فقط يتأثر بذلك الكائن الصغير الضعيف، الرقيق الأليف.. الشبشب.
يقولون إن إبراهيم عيسى كان يرتديه إبان رئاسته لتحرير جريدة الدستور، حين كان يمكث بمقرها ساعات طويلة في سنوات تفرغه شبه الكامل للصحافة، أيضًا عماد الدين حسين، رئيس تحرير جريدة “الشروق”، عندما سُرق حذاؤه خلال صلاة الجنازة على الفنان الراحل عمر الشريف، عاد إلى جريدته من التجمع الخامس للمهندسين بـ”شبشب”. حصل حاجة؟ أبدًا.
ذات مرة وجدت ورقة معلقة داخل الجريدة، بتعليمات وأوامر جديدة، أحدها “ممنوع منعًا باتًا ارتداء الشبشب، ومن يخالف ذلك سيتعرض للخصم”. فجأة وبقدرة قادر أصبحت عرضة للخصم من مرتبي لا بسبب عدم التزامي، ولا بسبب ارتكابي أخطاء مهنية، ولا لنقصٍ في مواهبي الصحفية، ولكن بسبب ذلك الكائن الصغير النحيف، الجميل الظريف.. الشبشب.
بالنسبة إليّ لم يكن هذا القرار قابلًا للتنفيذ بأي شكل من الأشكال وأي حال من الأحوال، ليس فقط لأسباب “الحَر” و”التينيا”، لكن لأن آلام الظهر تُحب تغيير “القعدة” كل شوية، كنت أضطر أحيانًا لأن أجلس “مستربّعًا”، والشبشب من دول يجعل الواحد خفيف الحركة، وللديسك الحركة حقًا بركة.. بخلاف ذلك يساعدني على أن أتوضأ وأصلي بسهولة، ولا أفعل مثل شفيق نور الدين في “مراتي مدير عام” وأضطر مع كل صلاة إلى خلع الحذاء ومطالبة الساعي بأن يحضر لي “القبقاب”! علاوة على أن عم شفيق كان مؤمنًا في أول الفيلم بوجوب الوضوء بعد السلام على أي امرأة، شوف بقى كان بيتوضى كام مرة، وكان ذلك اتباعًا لابن حنبل الذي قال إن السلام على المرأة ينقض الوضوء، طبعًا قبل أن تُحرِّك مشاعره الجانب الوسطي فيه ويصرخ في الساعي مطيحًا بـ”القبقاب” في آخر الفيلم: “أبو حنيفة قال ماينقضش”. ارتداء “الشبشب” يعفيك كثيرًا من الحيرة بين رأي الإمامين ويسهل عليك اتباع أيهما.
قررت تجاهل القرار، وخلال يومين حصد رئيس التحرير نتيجة منع الشباشب..
لم يكن يصلي إلا عندما تتعدى مبيعات الجريدة 30 ألف نسخة. دخل المكان المخصص للصلاة ليصلي العصر ففوجئ بالرائحة الكريهة المنبعثة من “شرابات” الزملاء. لم يستطع أن يكمل صلاته وخرج من الركعة الثانية غاضبًا!
لكن مستوى ذكاء رئيس التحرير لم يؤهله لفهم أن تلك الرائحة ناتجة عن قراره، فمعظم المواظبين على الصلاة بتلك المؤسسات عادة ما يكونون من عشاق ذلك الكائن الصغير الخفيف، المريح اللطيف.. الشبشب.
أصبحت وحيدًا.. شبشبي محط الأنظار. وبدأ التضييق.
ولمّا أيقنت استحالة تنفيذ القرار، لم أجد فرارًا من الإقرار. كتبت طلبًا إلى رئيس التحرير، جاء كالتالي:
“بما أن سيادتكم رئيس التحرير، أرجو منكم تحريري واستثنائي من قرار منع ارتداء الشبشب، وذلك نظرًا لتعرُّض صباع رِجلي اليسرى الصغير لإصابة قديمة جعلته يعاني من “الكالّو” –لامؤاخذة- حال ارتداء الحذاء لفترة قصيرة، فما بالكم بارتدائه لفترة طويلة، وسيادتك تعلم المثل القائل بإن راحة الجسم تبدأ من القدمين، وتعلم أيضًا كم يحتاج محرر الديسك إلى التركيز من ساسه لراسه كي ينتج عملًا جيدًا، فكيف ستركز راسي في الوقت الذي يعاني فيه ساسي؟ مع العلم بأن مقاس قدمي 47! وأكبر مقاس متوافر –ونادرًا- هو 46، وأضطر لارتدائه هو ومقاس 45 اتقاءً لشر “التفصيل”، وبالتالي “الكالّو” لا يفارق أصابع قدمي بتاتًا يا سيادة الرئيس.
أرجو قبول طلبي.. ولكم جزيل الشكر”.
“إنت بتهذر يا أستاذ” قالها رئيس التحرير منفعلًا وهو يخرج مسرعًا من غرفته، وأتبع “طب إيه رأيك إن مفيش حد هيُستثنَى من القرار ده بالذات”. رزقني الله برؤية رئيس مجلس الإدارة وهو يقف مع شخص أمام مكتبه مرتديًا “شبشب”. قلت لرئيس التحرير “حضرتك بص وراك كدة”، فرد “نعم يا أخويا”، فقلت “بص بس.. البوص الكبير لابس شبشب هناك أهه، مش حضرتك بتقول مفيش استثناءات؟”، فنظر ثم خفض صوته قائلًا “إنت هتستعبط.. رئيس مجلس الإدارة حاجة، وكلنا على بعضنا كدة حاجة تانية خالص”، فرددت ردًا لا أعلم كيف رددته إلى الآن: “طبعًا.. مش هو اللي بيقبّضك”!
كان ذلك آخر أيامي في تلك الجريدة.
.