هند كرم تكتب : "عفوا ؛ لاتوجد أم مثالية ! "

ارتبط شهر مارس آذار في صورته العامة بخصوصية ميزته عن غيره من الشهور فهو موسم إعلان السعادة والبهجة والفرح، هو شهر “الربيع والمرأة” معا، هذه المتلازمة التي ترمز للجمال وتجمع شريانيّ الحيـاة…

أمهات العالم وبناتهن يحتفلن بعيد الأم في مثل هذا اليوم من كل عام، وأنا كنت معهن؛ كنت أشاركهن الاحتفال بأمي حتى وقت قريب جدا، فقط قبل 16 عاما! قبل أن ترحل أمي ويخسر عالمي المعنى الحقيقي للوطن والأرض.

ستة عشر احتفالا بالأم في عيدها حاصرتني طقوسها لا إراديا في كل مكان وموقف، في عبارات التهنئة وأغلفة الهدايا، والأغاني وعبارات الوفاء والعرفان،، كيف لا وأنا جزء من هذا المجتمع النسائي؟ كيف لا وسيدات وآنسات العالم اتفقن على أن ينعمن بقرب أمهاتهن في اليوم ذاته، أن يحظين بلمسهن وطباعة قبلات الحب الفطري الخالد على وجناتهن، أن يتدثرن بأحضانهن ويلتحفن بدفئهن عن برودة المشاعر وقسوة الحياة.

إلا أنا، فلشهر مارس معي قصص حياة مختلفة لا تخلو من المفارقات..

أنا ومارس، تجاوزنا الاحتفال بيوم المرأة أو يوم السعادة، أو المناسبات الوطنية والعالمية، في مارس رحلت أمي بعد يومن فقط من آخر احتفال حقيقي بالأم!. في أيام مارس وُلدت أشياء ورحلت أشياء، أشخاص، مواقف، أحداث، ذكريات، مناسبات، حكايات، حُفرت في حياتي وتركت علامات فارقة لا تـُمحى.

أذكر أنني وفي مثل هذه الأيام “المارسية” كنت أحاول -على استحياء- تعويض رحيل والدتي بمشاركتي للأمهات من الأهل والأصدقاء والزميلات في العمل احتفالهن بهذه المناسبة، ولكن كنت دوما أشعر أن هناك شيئا ما يأبى البوح!

ليس هناك أم كـ أمي ولن أجرؤ على تسمية أخرى بـ “والدتي العزيزة أو ماما فلانة” حتى ولو على سبيل التقدير والإعزاز، لا أستطيع أن أجامل أو أشارك في أمومتها أحدا، ولن أدعّي مثالية البنوة مع أمهات عزيزات فضليات أشرف بوجودهن في حياتي، ولكن عذرا، فأنا لازلت أتجرع يـُتمي..

لن يعوضني وجود أمهات الكون حولي عن ليلة واحدة كنت أغفو فيها على وسادتها وأنفي محشورٌ تحت عنقها أتنفس زفيرها وأتوسد صدرها، وشعرها ينسندل على وجهي كستارة حريرية تداعب جفوني التي لا تلبث أن تغفو بسلام وسكينة، لازلت أسمع ذلك الصوت الباكي وأنا بين غفوتي وصحوتي بعد أن تنزلق رأسي من فوق صدرها لتستقر على باب فؤادها، صوت رؤوم متضرع يدعو لي ولأخي بصلاح الحال وراحة البال وتسخير طيب العباد وسعة الرزق والذرية الصالحة وحسن الختام. وبمرور السنوات، وبممارستي للأمومة مع أبنائي، أدركت كل ما غاب عني أيام الطفولة والصبا عندما كنت الابنة لأمي فقط دون مسؤوليات! لم أكن بنتاً مدللة أبدا كوني البنت الوحيدة، كما لم أكن طفلة لاهية غائبة عما يدور حولها، عشت طفولة طبيعية عادية جدا عرفت فيها المسؤولية وكيف يكون الطموح والوصول للهدف.

وعندما رُزقتُ بابنائي الثلاثة، أدركت أن الأمومة ليست دورا حتميا في الحياة، أو مجرد مسؤولية تتحملها المرأة،، فهمت معنى أن تكون الأمومة تلبية للفطرة البشرية والغريزة التي جـُبلت عليها المرأة، هي كتلة أحاسيس ومشاعر تلقائية لا يحركها أو يتحكم فيها إلا دافع “الحب”. مع الأمومة لا مكان للكره أو الحقد أو الغيرة والانتقام.

في عالم الأمومة كل المحظورات لا تعني سوى الحب.. فالغضب حب، الانفعال حب، التوتر، التعب، الارهاق، الضجر، حتى الاكتئاب حب!!… لا مجال لغير الحب في علاقة الأم بأبنائها حتى وإن لم يبادلوها المشاعر بنفس قدر منحها وعطائها!!!
المنطق والعلم والتجارب الإنسانية أجمعت على أن علاقة الحب والمودة والتسامح والغفران بين الأم والطفل فطرية ولا تـُبنى ديمومتها على المواقف اللحظية أو الانفعالية وإن حدثت، فهي حالات شاذة لا يقاس عليها، وجاء علم النفس وفسر بأن العقل الباطن يحتفظ بكل المواقف في الصغر على هيئة صور ورموز وذكريات تتبلور مع مرور الوقت إلى ردة أفعال لتساهم في تشكيل سلوك الأشخاص وتكوين انطباعاتهم ومشاعرهم تجاه الآخرين..

فهل كانت والدتي أما مثالية؟ هل أنا الآن أمٌ مثالية، وماذا عنكِ سيدتي؟ وأنتِ صديقتي؟ ما مفهومنا للمثالية ومقاييسها؟!
لو اعتبرنا أن المثالية هي توفير الاحتياجات الأساسية للأطفال من طعام وملبس ومسكن وعلاج وتعليم مناسب وحماية ورعاية فهذه حقوق الطفل انسانيا قبل أن تكون مسؤوليات، فهل توفير سبل الحياة جدير بالمثالية؟!… ماذا عن تلبية الاحتياجات المعنوية والنفسية للأبناء؟ ماذا عن التدليل؟ مشاركتهم أوقاتهم ومشاكلهم، هفواتهم، ألعابهم، اهتماماتهم وسذاجتهم أحيانا؟ هل تقديم التضحيات ونكران الذات هي أسمى آيات المثالية؟ هل هو الانكفاء على تربية الأبناء تربية دينية صالحة هو قمة المثالية والورع؟ أو ربما تنشئتهم على اعلاء قيمة العلم والعمل والتفوق في التحصيل الدراسي لخدمة ورُقي المجتمع؟…

هل من تكون أماً لشهيد ضحى بروحه فداء لوطنه هي من تستحق لقب الأم المثالية، وتكون مثالا للوطنية والإخلاص؟ أو الأم الحقيقية هي من قاست من أجل أبنائها، وذاقت الحرمان من رغد الحياة لتوفير أدنى سبل العيش لهم؟

المثالية بالنسبة إلى ماذا ومَن؟…. إلى ما أنجزته الأم العاملة بتحقيقها المعادلة الأزلية في التوفيق بين (البيت والعمل) بغض النظر عن قيمة وطبيعة عملها… طبيبة، مهندسة، معلمة، صحفية، بائعة، فنانة، غانية.. الخ ؟! أو إلى تفانيها في المكوث داخل بيتها لتمارس دور الزوجة والأم وربة المنزل فقط؟

هل يمكن اعتبار مبادلة الأبناء لأمهاتهم مشاعر الحب والاشتياق والاحترام والامتنان معيارا لمثالية الأم ودون ذلك لا مثالية؟
المثالية هي نسبية إذن; كنسبية أشياء كثيرة مُطلقة في حياتنا، لا يمكن تقنينها أو قياسها بمعايير محددة بمعزل عن ظروف قياسها…

وفي رأيي الشخصي لا توجد أم مثالية وأم غير مثالية….. فكل أم في نظر أبنائها وأسرتها مثالية وفقا لعوامل خاصة تحكم هذه العلاقة، لذلك فإن تحقق “السعادة” في علاقة الأم وأبنائها هي بالنسبة لي جوهر المثالية.

الصفحة الرسمية للصحفية والكاتبة هند كرم من هنــا

اقرأ أيضًا:

هند كرم تكتب: عندما تتضخم” الإيغــو “وتهوي بسكان القلاع المُحصنة

هند كرم تكتب: “لو يعلم المتعاطفون إلى أي منقلبٍ ينقلبون ” 

هند كرم تكتب : “هل الانحياز للوطن وحده جريمة؟!” 

هند كرم تكتب : متى تنتهي فقرة البهلوان في البرلمان؟!

هند كرم تكتب : “عصير الإنتخابات” على “الحدث” ماسخ وبه سمُ قاتل‎

.

تابعونا علي الفيس بوك من هنا

تابعونا علي تويتر من هنا