وكان لا بد أن تخرج إلى العلن الأزمة الخانقة التي تعيشها الصحافة في لبنان، على اختلاف توجهاتها السياسية وانتماءات أصحابها وأقلامها المشرقة بالفكر وحب الناس والرغبة في خدمتهم فتصيب الجميع بالوجوم، ولادة الحزن، وهم ينتبهون إلى خطورة الزلزال الذي يتهدد وطن الأرز في بعض أعز ما يتباهى به من مزايا تزكي نظامه الفريد، برغم كل ما فيه من عيوب، وتعزز الادعاء بأنه موطن الحرية.
بل إن الوجوم الذي سيستدعي الحزن الجماعي لن يقتصر على اللبنانيين وحدهم، فالعرب في مشارق أرضهم الواسعة وفي مغاربها قد سارعوا إلى التعبير عن صدمتهم بما تتعرض له الصحافة في لبنان من مخاطر قد تودي بها، مقررين أن هذه كارثة جديدة تضاف إلى سجل الكوارث التي يعيشون تحت وطأتها في ديارهم جميعاً في قلب مسلسل دموي مرعب من «حروب الأخوة» أو الحروب الأهلية التي تكاد تذهب بأوطانهم.
فصحافة لبنان، على اختلاف اتجاهاتها، لعبت دوراً رائداً في نشر الوعي مشرقاً ومغرباً، وربطت بين العرب في سائر أقطارهم، وأسهمت في معارك التحرير والتحرر التي خاضوها ضد الاحتلال الأجنبي عموماً، وتجندت في خدمة القضية الفلسطينية فاضحة الاحتلال الإسرائيلي وجرائمه وتخاذل أهل النظام العربي عن نصرتها.. كما أنها وقفت ضد حروب الاستعمار جديده والقديم على البلاد العربية، مشرقاً ومغرباً (العدوان الثلاثي – الأحلاف الأجنبية التي استرهنت بعض الأنظمة والقيادات التي حكمت شعوبها خلافاً لإرادتها إلخ..).
ومن حق هذه الصحافة الادعاء أنها قد شكلت، بالنسبة لقرائها اللبنانيين وسائر العرب، مصدراً أساسياً من مصادر معلوماتهم بحقيقة الأوضاع في بلادهم، وما يدبر لها، وحركة الصراع السياسي داخل أقطارهم..
بل إن بيروت، بصحافتها الرائدة، شكلت دليلاً على حيوية الأمة ونضال شعوبها من أجل استكمال حريتها.. فضلاً عن دورها الثقافي كدار نشر لإبداع كتابهم وشعرائهم والروائيين والقصاصين منهم، والأخطر: المفكرين الذين لا يجرؤون على الجهر بآرائهم الدالة على الطريق إلى التغيير في بلادهم المحكومة بالصمت بوصفه بين مصادر الأمان للحكام والمتحكمين الذين لم يعترفوا يوماً بحق الرعايا في المعرفة.. ناهيك بالاعتراض.
لقد عرفوا منها وعبرها شعراءهم الكبار وروائييهم المبدعين ومفكريهم المستقبليين، فقرأوا نتاجهم وإبداعاتهم وآراءهم ومناقشاتهم الفكرية، وقرأوا فيها ما لا يصل إلى البلاد المحكومة بالقمع، ما يعزز ثقتهم بأنفسهم وبحقهم في الحرية والتقدم.
كانت صحافة لبنان منذ عشرات السنين مؤسسة تعمل على نشر الوعي، تنصر قضايا شعبها وتؤكد جدارته ببناء غده الأفضل.
كذلك فإن صحافة لبنان زادت من رصيده عند أهله العرب، إضافة إلى ما اكتسبته من مكانة عند عواصم القرار في العالم، وأسهمت في نصرة القضايا العربية وفي الطليعة منها فلسطين التي اجتاحها العدو الإسرائيلي بدعم دولي مفتوح وعجز عربي لا يختلف في النتائج عن التآمر..
ليس هذا رثاء للصحافة في لبنان، بل هو رثاء للوطن الذي قتله نظامه السياسي القائم على تزوير إرادة الناس وإتاحة موارد البلاد للنهابين من النافذين فيه، ورحَّل شبابه الذين يحتاجهم وطنهم لبنائه وتقدمه.
إن غياب الصحافة إدانة لهذا النظام السياسي و«رجالاته» الذين ضربوه بطاعون الطائفية التي أهاجوها ليستمر تحكمهم بدولته ونهب خيراته وضرب وحدة شعبه وتهشيل كفاءاته وأجياله الجديدة التي كان يمكنها أن تعمل على بنائه وتعزيز موارده لتحرير إرادته.
ثم إن غياب الصحافة إدانة للصوص الهيكل الذين اجتهدوا لشراء أهل الرأي من كتاب وصحافيين مميزين، وإخضاعهم ـ متى تيسر لهم ذلك ومع من عرض قلمه للبيع – لطموحات أهل النفط وسعيهم إلى التعتيم على مخازيهم الشخصية فضلاً عن فضائحهم السياسية.
إن الوطن العربي، بأقطاره جميعاً، يكاد يخلو من صحافة تستحق اسمها. فالمؤسسات الصحافية عموماً تكاد تكون مسترهنة للحاكم، ملكاً كان أم أميراً أم رئيساً بأصوات مزورة وفرها القمع والرشوة واعتبرها مصدراً لشرعيته.
ولقد كان لبنان، بصحافته الحرة – على اختلاف منابرها – شهادة جدارة لهذا النظام الفاسد المفسد، لا سيما إذا ما قورن بسائر الأنظمة العربية القائمة في ما بين المحيط والخليج.
ولن تستسلم الصحافة ولن تختفي طالما بقي في لبنان «رأي عام» يعلي صوته مناصراً القضايا المحقة، فاضحاً الفاسدين ومستغلي الوظيفة العامة ونهابي المال العام..
وسيكون لنا كلام آخر قريباً.. فإلى اللقاء.
.