عندما يحل موعد الإحتفال السنوي بعيد الأم، ويتصاعد صوت فايزة أحمد، وهى تشدو برائعتها الخالدة (ست الحبايب يا حبيبة) يسارع كل من يتمتع بنعمة وجود والدته على قيد الحياة، لتقديم أغلى هدية إلى نور عينه، ومهجته، وحياته، ودنيته، بينما يكتفي الأيتام من أمثالي بالدعاء للحبيبة الغائبة، وسط دموعهم التي تجري أنهارا كل عام خلال هذه المناسبة المثيرة للشجن.
لم تكن أمي رحمها الله من المهتمين بلعبة كرة القدم أو الشغوفين بنجومها الذين لم تعرف منهم سوى أسماء محمد لطيف و الخطيب وحسن شحاتة، لكنها مع ذلك ساندت أخي الأكبر عندما انضم إلى صفوف ناشئي فريق غزل شبين الكوم ولم تعترض كثيرا على سفره الدائم من أجل خوض التدريبات، واللقاءات التي كانت تستقطع جزءا كبيرا من وقت المذاكرة المقدس، في حين عارضت بشدة فكرة ممارستي أنا لهذه الرياضة بسبب خشيتها من أن تنكسر نظارتي الطبية أثناء اللعب ويتسرب زجاجها داخل عيني، إلا أنها كانت تشعر بالزهو و هى تسمعني – قبل أن أبلغ الثامنة من عمري – أتفلسف أمام أبي وأصدقائه في الأمور الكروية و أتباهى بالمعلومات التفصيلية التي جمعتها عن مختلف الفرق و اللاعبين من خلال متابعتي اليومية الدقيقة لكل ما ينشر على صفحات الجرائد و المجلات المحلية.
أسرتي كانت واحدة من القلائل في شارعنا التي أسعدها الحظ بامتلاك تليفزيون أوائل السبعينيات، مما دفع الجيران والضيوف للحضور بشكل دوري إلى منزلنا لمتابعة المباريات وسط ترحاب شديد من أمي التي لم تكن تتوقف أبدا عن تقديم المشروبات المتتالية للحاضرين، وهى تسأل في كل مرة: (مين اللي غالب؟) دون أن تهتم أصلا بسماع الإجابة التي لا تعني لها شيئا سوى التواصل مع الجميع و التأكد أنهم مستمتعون بالأجواء رغم إختلاف الإنتماءات.
ذكاؤها الفطري جعلها تدرك بوضوح أن وجودها غير مرغوب فيه وقت لقاء الأهلي و الزمالك، لذلك كانت تتعمد الخروج يومها لزيارة الأقارب منذ الصباح الباكر كي تفسح المكان و المجال أمام أبي -الأهلاوي جدا- الذي يصاب بحالة توتر شديدة تعيقه عن الكلام وتمنعه من استقبال أي مخلوق بإستثناء عمي -الزملكاوي جدا- حيث كان من المستحيل أن يشاهد أحدهما المباراة بمفرده دون الأخر!. موعد رجوعها إلى المنزل ارتبط دائما بالنتيجة: إذا فاز الفريق الأحمر تعود قبل المغرب أما اذا خسر فإنها تتأخر إلى ما بعد العشاء بفترة طويلة تجنبا للجو المشحون الملبد بالغيوم و الذي ينذر بالعواصف وعواقب الأمور.
ذات مرة رجعت إلى البيت مسنودا على اثنين من زملائي بعد أن أصبت في قدمي خلال إحدى مواجهات الدورة المدرسية فاستقبلتني بهلع ممزوج بغضب شديد وهي تقول: يقطع الكورة و سنينها.. إيه اللي بيخليك تلعب لما إنت مابتعرفش؟ أصابتني العبارة بوجع نفسي فاق أحساسي بالألم الجسدي فامتنعت عن تناول وجبة الغذاء حتى جاءت لمصالحتي و هي تردد بحنية: يا ابني سيبك من الكلام الفارغ ده وركز في المذاكرة علشان تطلع صحفي زي ما إنت عايز ولو ضروري الكورة يعني ابقى أقف حكم علشان ماحدش يخبطك!. عجبتني الفكرة العبقرية فاشتريت صفارة، ورسمت كارت باللون الأصفر، وآخر بالأحمر كي أكون مستعدا لممارسة مهمتي الجديدة التي نجحت فيها إلى حد كبير، وأصبحت مطلوبا لتحكيم لقاءات مهمة في كل الشوارع المحيطة بنا، وهو الأمر الذي عوضني قليلا عن الإعتزال المبكر جدا!.
تعرضت خلال فترة صباي لمشكلة في النظر مما استدعى خضوعي لعملية جراحية قام الطبيب على إثرها بتغطية عيناي برباط ضاغط حرمني من رؤية مباراة مهمة في الدوري العام، لكن ست الحبايب التي كانت ترافقني بالمستشفي استعارت من الممرضة تليفزيون بدون صوت و جلست بجانبي كي تصف لي الأحداث رغم أنها لا تعرف الفارق بين الفاول و رمية التماس. الغريب أنها بمرور الدقائق بدأت تتفاعل مع مجريات اللعب وصارت تشجع بحماسة شديدة لا أدري حتى اليوم إذا كانت حقيقية أم مصطنعة من أجل رفع روحي المعنوية.
ليلة لقاء منتخب مصر مع نظيره الهولندي خلال مونديال 90 كنت في رحلة عمل بالأقصر و اتصلت بها كالعادة للأطمئنان على أحوالها لكن بمجرد أن بدأت الكلام قاطعتني بصوت متهدج ينم عن السعادة الطاغية: شفت جول محمد عبد الغني؟ أنا ممسكتش نفسي ساعتها و قعدت أنا و الجيران نهيص ونسقف!. لم أشأ طبعا أن أقاطعها من أجل تصحيح إسم محرز الهدف واستمريت في سماع آرائها الفنية وردود أفعالها الإيجابية على أداء لاعبينا الذين نالوا جميعا نصيبا ضخما من دعواتها بالستر والعافية.
عندما نظمت بلادنا بطولة أمم أفريقيا عام 2006 فوجئت بها تشتري علما كبيرا وتضعه في البلكونة، فسألتها مداعبا: من امتي الوطنية دي؟ فردت بمنتهى الجدية: إنت مش شايف الناس كلها مهتمة أزاي.. يعني جت عليا أنا؟ فبادرتها بتساؤل آخر: يعني هتتفرجي على الماتشات و تشجعي؟ فقالت: مش هينفع لأنهم بيلعبوا وقت الصلاة لكن هاطلب من ربنا إنه يقف معاهم و ينصرهم. ليلة تتويجنا باللقب لمحت كل معالم الفرحة ترتسم على وجهها الطيب وهى تتابع المظاهرات الصاخبة التي خرجت للاحتفال، وسمعتها تصيح بصوت عال: والله لو بأعرف أزغرد كنت زغردت!.
رحلت أمي قبل أن تراني أحقق حلمي المؤجل بالكتابة في الصحافة الرياضية، لكنها بالتأكيد تعلم ما وصلت إليه بفضل دعمها الذي لن أنساه مادمت حيا…. كل عام و أمهاتنا جميعا بخير سواء كن معنا على الأرض أو سبقتنا أرواحهن إلى السماء.