نهضت مفزوعاً من محاولة الاسترخاء على صوت شاب يصرخ “حيموتونا .. حيموتونا” فأيقظت مرعوباً قريبي وأصدقاؤه- وكان بعضهم قد استغرق في النوم بالفعل- لنسأل الشاب في ذعر؛ مين اللي حيموتونا؟! فأكد لنا في كلمات مقتضبة: حيدخلوا من هنا ويموتونا.. وقد كان يقصد أحد الشوارع المتفرعة من ميدان التحرير!!!! ولم يزد كلمة عن ذلك وبدأت أشعر بالخطر الحقيقي، وكلمت قريبي بصيغة من يترك وصية وأعطيته رقم التليفون الشخصي جداً والذي لم أكن قد أعطيه إلا لأقلية من الناس، فقد خشيت أن تسقط شبكة موبينيل ولا نستطيع التواصل إلا عبر شبكة اتصالات، وقد كان اتفاقنا الأساسي هو في حالة سقوط شبكات الموبايل نجتمع عند المسلة التي تتواجد في بداية الميدان أمام المتحف المصري، على طريقة التجمع في فيلم “الطريق إلى إيلات” بمعنى أننا اتفقنا أنه في حالة حدوث أي مكروه، وعدم تمكننا من التواصل عبر الموبايل، أن يذهب كل واحد منا إلى هناك وينتظر الآخر مدة معينة وإذا لم يأت الآخر، على المنتظر أن يرحل مباشرة!!!! وبدأت أحسب نظرياً المسافة بين الصينية التي كنا حولها والمسلة، وأتوقع قدرتي على الجري المتواصل الى هناك لأني آمنت بأنه في حالة أي هجوم، سيكون أملي الوحيد هو الجري بدون توقف لحظة واحدة على أمل الوصول إلى هناك لأن الشارع عند المتحف واسع وربما أنجو من الموت المحقق..
ولا أدرى لماذا وتقريباً دوناً عن كل الحضور فوجئت بواحد لا أعرفه لكن يبدو أنه متدين يهمس في أذني “لقد حانت لحظة الشهادة وعليك أن تستحضر نية الشهادة وتستغفر الله على كل الذنوب التي ارتكبتها في حياتك”.. لأجد نفسي مذعوراً وأقول له يعني خلاص؟؟!! ولا أجد اجابة ويتوه عقلي في محاولة تذكر كل الذنوب التي ارتكبتها!!!! وعلى جانب آخر تلتقط أذني حوارا بين سيدة كبيرة ترتدى عباية سمراء من تلك النوعية التي ترتديها سيدات البلد، وتكلم بعض البنات حولها وأظنهم أقاربها أو معارفها وتقول لهم: “دلوقتي هما حيهجموا والرجالة دووول حيموتوا وانتوا حترجعوا لورا ومش عاوزة واحدة تتحرك على أن تنتظروا للنهاية وكل واحدة عارفة في الآخر حتدافع عن نفسها ازاي!!!! وهتفت بحدة اظن انتوا فاهمين قصدي كويس!!!!”. طبعاً خطورة الموقف وصراخ الشاب وهمسات الشاب المتدين وكلمات السيدة البسيطة صنعت مزيجاً من الرعب لا أظن أنه يمكن أن أمر في حياتي برعب مثله، لدرجة أن كل قدراتي المنطقية توقفت عن العمل ولم أفكر في أي تساؤلات بديهية من نوعية “مين اللى حيموتونا وحيموتونا ليه وازاي؟؟!!”، إلى غير ذلك من الأسئلة المنطقية!!
الى أن بدأت الأمور تتضح ونكتشف أن القصة كلها عبارة عن تغيير طبيعى لتشكيل القوات المسلحة، بمعنى رحيل مجموعة ووصول غيرها، فظن البعض أن الجيش سيترك ذلك الشارع لتكتسحه قوات الشرطة وتبيد المتظاهرين!! وقام أحد أصحاب قريبي بالتقاط الشاب الذي بدأ الصراخ في البداية وسحبه على جنب لكي يمنعه من إثارة الذعر بيننا، وحتى تلك اللحظة لا أفهم كيف استطاعت تلك التوليفة المرعبة أن تنزع مني أي منطق لدرجة أني اقتنعت أن الشرطة سوف تدخل بجرار من تلك النوعية التي يزيلون بها الأنقاض لكي يكسحوا كل المتواجدين في الميدان بلا هوادة!! بل إننى من شدة الهلع تخيلت فعلاً مشهد دخول الكاسحة الميدان!!!!
وبعدها طبعاً لم يكن هناك أى مجال للنوم او الراحة وبدأنا نراقب ما يحدث في الميدان وعرفنا أن بعض الشباب يذهبون إلى وزارة الداخلية عن طريق شارع “محمد محمود” لكي يلقوا على المبنى قذائف المولوتوف، وتحدثنا مع شاب منهم فأكد لنا أنهم لا يستطيعون الوصول للوزارة لأن القناصة لا تتركهم وأنهم يذهبون في مجموعات صغيرة ويعودون غالباً بقتيل أو مصاب إصابة خطيرة من ضربات القناصة لأن الداخلية كانت تستميت في الدفاع عن المبنى، ورغم أننى كنت ولازلت لا أقر ذلك السلوك إلا أن كلام الشاب الذي يبدو عليه أنه من أولاد الشوارع يؤكد ان القناصة كانت موجودة بالفعل عكس تصريحات الداخلية، ومع توالى سقوط الضحايا فوجئنا باتصالات من العائلة للاطمئنان وأكدنا لهم أن الأمور داخل الميدان آمنة تماماً، وأن الخطورة تكمن في أولئك المتهورين الذين يقتربون من مبنى وزارة الداخلية وأننا لا نؤيد هذا السلوك ولن نتحرك من الميدان وأن عليهم أن يطمئنوا علينا.
وبعدها ظهرت شائعة أن سيارات الإسعاف ربما تحمل مفاجأة غير سارة لثوار الميدان، وصمم بعض الثوار على تفتيشها خلال دخولها حتى لا تكون وسيلة لاختراق الميدان، وفي النهاية ومع استحالة النوم وبرودة الجو توجهنا لأحد منازل محطة مترو الأنفاق بالتحرير تلمساً للدفء وكان ذلك المدخل قريباً من كنتاكي، وهناك وجدنا صحبة من الشباب فكروا نفس التفكير أن يلتمسوا الدفء والأمان بعد يوم صعب وحافل، ولا أدرى حتى الآن كيف ولماذا بدأ هولاء الشباب اطلاق النكات الساخرة والافيهات حول وضع البلاد وبدأت الافيهات أشبه باللعبة المنتظمة حيث يطلق شخص افيه والآخر يعلو عليه وهكذا بشكل متواصل حتى انقضت معظم ساعات الليل في هذه السخريات، وبذلك تأكدت من المقولة التاريخية بأن الشعب المصري ابن نكتة، ففي عز الخوف والرعب لم يمتنع هولاء الشباب عن الضحك والسخرية في ظل توقعات بالغدر من قبل السلطات في أي لحظة، ولا أدرى أيضاً لماذا لم يحرص أى منا على تعريف الآخرين بنفسه أو وظيفته وكان يكفي الجميع فقط أننا مصريون وأن كلاً منا يملك الحس الفكاهي الساخر ولكن بالملاحظة السريعة أدركت أن كل هولاء الشباب من أبناء الطبقة المتوسطة وأعمارهم كذلك متوسطة، وانتهت تلك الامسية دون أن يحصل أياً منا على رقم موبايل الآخر وحتى هذا اليوم لم ألتق مرة أخرى بأيٍ من هؤلاء الشباب الرائع..
بعدها تحركنا لكي نصلى الفجر وندعو الله أن تمر الساعات القليلة المتبقية على خير ويفتح مترو الأنفاق ونتحرك في طريق العودة ونندمج في جموع الناس حتى لا نتعرض لأي مشاكل باعتبار أننا من أبناء التحرير، ولأنى أعيش بمفردي، تحركت مع قريبي إلى بيتي على أمل أن نرجع للتحرير بعد الحصول على قسط من النوم لكي نواصل المسيرة الثورية، لكن، ما منعنا يوم الأحد من التوجه إلى ميدان التحرير؟! هذا ما سوف نتعرف عليه في الحلقة القادمة باذن الله.