بعد بيان الحكومة والجدل بشأن إذاعته على الهواء أو مسجلاً (والذي كان على سبيل التشويق والدعاية) ستجد الملايين من الخبراء الاقتصاديين والسياسيين والاجتماعيين والحقوقيين وحتى العاطلين الذين يدلو بدلوهم تعليقاً سلباً أو ايجاباً في نقاط تناولها خطاب الحكومة أمام مجلس النواب، وكل يدعي المعرفة الحقة بكل الأساسيات وبواطن الأمور، ولا يهدأ إلا أن أفتى برأيه في دقائق الأمور. تلك الصفة تميز المصريين منذ عهد بعيد، انتقلت عبر الأجيال من المجموعات المهمشة والضعيفة إلى وقتنا الحالي وانتشرت في جميع الطبقات من أدناها إلى أعلاها وإن كانت تقتصر في السابق على الطبقة المهمشة والتي كانت تقوم بذلك من دافع التنفيس الذي لا طائل من وراءه لا أكثر. أما الآن فالكل يفتي فيما يعرف أو ما لا يعرف.
قد يكون مصدر الفتي هو اختلال الوضع الاجتماعي والتعليمي في البلد وانتشار فكرة العمل في غير التخصص، فأنت تجد أغلبية من الأشخاص تعمل في غير ما تلقت من تعليم، فهذا صيدلي يعمل مقاولاً وطبيب يكتب روايات ومهندس يعمل بالتجارة وخريج آداب يدير مشروعات، ومحامي يعمل فني كمبيوتر، واخصائي مكتبات يعمل طيار ديلفيري للوجبات الساخنة. في الفترة السابقة كشفت الأحداث عن أشخاص كانت لهم شهرتهم في أعمالهم واكتشفنا انهم لا يحملون المؤهل المناسب كوزير للإسكان وهو لم يحصل على بكالوريوس هندسة وصحفي حاصل على دبلوم فني صناعي، ورئيس جامعة لا يحمل درجة الدكتوراه.
بالرغم بأن هناك جانب في هذا الأمر يعتبر مشروعاً (مالم يبنى على كذب) ويتم تشجيعه بدافع “ان ماحدش لاقي شغل” و “أحسن من القعدة على القهوة” إلا أن هذا كله أدي في نهاية الأمر إلى خلل عنيف في سوق العمل وفي تنمية الخبرات، وأصبح مخزون الخبرات العملية في العمل مضمحلاً وينبئ بكارثة فنحن نجبر الناس على أن يعملوا بما لا يعرفون أو فيما هم ليسوا اهل له.
تخيل أن يقوم مهندس كهربائي بعملية جراحية ولو بسيطة أو يعمل طبيب بالقبض على المجرمين أو أن تجد محامي يعمل صيدلياً، كل هذا ممنوع بحكم القانون .. جميل، لكن القانون لا يحكم كافة المهن ولم يتم تحديثه تحت وطأة الحاجة الاقتصادية بمنطق “دعه يعمل .. دعه يمر”.
الخلل الاقتصادي المزمن أدى لأخطاء مجتمعيه تكبر ككرة الثلج التي بدأت في التدحرج من قمة الجبل وأخذ حجمها في التزايد كلما انحدرت لتقترب منا لتهلكنا في نهاية الأمر بانفجار مدوي ومدمر لطاقاتنا البشرية الذي لن يمنعه أي من خبراء المفرقعات ال 90 مليون والذين يتجمعون للفرجة عند العثور على عبوة ناسفة أو أولئك الذين يتفحصون شنطة سيارتك باستخدام كلب بلدي عند الدخول إلى أي مول تجاري وكأنهم من خبراء الأمن الوقائي.
في النهاية دعونا نتذكر أننا كنا نشكوا سابقاً بأننا “بلد شهادات صحيح” بداعي أن من يحمل الشهادة ليس بالضرورة يحمل الخبرة لكن تغير الامر الآن إلى أن أصبحنا “مش بلد شهادات”، وعلك تتذكر أن من علامات الساعة أن يعهد الأمر إلى غير أهله، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
.