إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن مع كل جريدة تغلق أبوابها، وأشعر أن علينا أن نقيم سرادق عزاء، وعلى قدر الجريدة يجب أن يكون حجم السرادق.
أحزن حين أسمع أن جريدة فى أسبانيا غلقت أبوابها أو أن صحيفة بريطانية تدرس التخلى عن مطبوعتها اليومية لصالح الأسبوعية أو أن جريدة فى كوريا الجنوبية أوقفت إصدارها الورقى حتى لو لم أقرأها يوما وربما لا أستطيع قراءة اسمها!
فمابالك إن كانت هذه الجريدة عربية بل ولبنانية -ولبنان هى أحب بلاد العرب إلى قلبى- وعلاوة على ذلك لها تاريخ طويل وصادفنى الحظ وقرأتها مرات واحتفظ ببعض أعدادها منذ سنوات وأتصفح صفحاتها الورقية عبر موقعها الالكترونى.
السفير واحدة من أعرق الصحف العربية فلم تكن مهتمة بالشأن اللبنانى فحسب بل كانت مدرسة صحفية أنتمى إليها عدد كبير من كبار الكتاب والرسامين فى العالم العربى أمثال ناجى العلى ومحى الدين اللباد، لذا لا أظن أن صحفيا لم يتأثر بمقال مؤسس “السفير” الكاتب الكبير “طلال سلمان” الذى نشره فى العدد الأخير الذى صدر الخميس الماضى والذى أعلن فيه عن نهاية عصر، ونعى فيه تجربته، ورثى حال لبنان بصفة خاصة والعرب بصفة عامة قائلا: “في حالة الوهن بل العجز التي يعيشها الإعلام في لبنان، مكتوبا ومرئيا، فلابد من بعض الكلام الصريح حتى الوجع عن هذا الإعلام والظروف التي تحكم صيرورته”.
وأضاف: “بداية، الحالة السياسية العامة التي يعيشها العديد من الأقطار العربية، والتي تتراوح بين “حروب الإخوة” و”الحرب على الإخوة”، التي باتت ـ عمليا ـ عنوان المرحلة الراهنة من التاريخ العربي. لقد بات السلاح هو «لغة الحوار بين الأشقاء» فحل محل التعاون والتقدم في اتجاه التكامل بدافع المصالح التي تفرضها روابط الجغرافيا والتاريخ والمصير المشترك.صارت الحروب الأخوية، مباشرة أو بالواسطة، هي الأساس في الأخبار والتعليقات والتحليلات”.
ولخص ما جرى للصحيفة وما يجرى للصحافة فى أغلب البلدان العربية قائلا: “سوق الصحافة في الداخل” باتت مضروبة بانعدام الحياة السياسية، مع سيادة الطائفية والمذهبية على الحياة العامة، وعلى سوق العمل وانقرض “الرأي العام”.
“سلمان” بدا متألما ومعه كل الحق، فالجريدة التى أسسها قبل 43 عامل صار مجبرا على غلقها، فالظروف لم تعد مواتية لاستكمال المشوار الطويل والمهم والمؤثر فقد تم تأسيسها عقب حرب أكتوبر وتحديدا فى مارس 1974، وحملت شعار “صوت الذين لا صوت لهم” وضمت طوال تاريخها عدد كبير من كبار الكتاب والرسامين أمثال ناجى العلي ومحى الدين اللباد صار لزاما عليها أن تصدر آخر أعدادها المطبوعة، رغم أنها لم تُغلق أبوابها حين انهارت مطابعها فى الحرب الأهلية، ولم تستلم حين قررت الحكومة اللبنانية إيقافها أكثر من مرة لكن هذه المرة الطعنة جاءت فى مقتل، فالأزمة المالية التى ضربت الصحافة اللبنانية قد أطاحت بـ”السفير” لدرجة أنها لم تكتف بوقف النسخة الورقية لكنها أيضا قررت إيقاف النسخة الرقمية مؤقتا لحين دراسة الموقف.
ما جرى فى “السفير” اللبنانية يتكرر الآن فى أغلب الصحف العربية بعضها أعلن توقفه، وبعضها يعانى ويئن، وبعضها يدرس ويُجرب، والبعض الآخر يآتى له التمويل من دول وملوك وأمراء دون انتظار عائد مادى؛ لكنهم قطعا ينتظرون مساندة وتأييدا ودعما معنويا وانتصارا لأفكارهم.
“السفير” التى لم تتأثر بكل ما جرى فى لبنان من حروب قضت على الأخضر واليابس لكنها تأثرت بالحصار الذى فُرض عليها من دول الخليج ومن الصراع الداخلى بين قوى كل منها يريد أن يثبت أنه الأقوى والأجدر، وللأسف لبنان أكثر الدول معاناة من كثرة الشيع والأحزاب المتصارعة على السلطة والصحافة.
لكن صحافة لبنان بوجه عام تستحق أن نقف معها؛ لأن صُناعها أساتذة فى فن صناعة الصحافة، فأنا أستمتع بجريدة “النهار” وزرت مقرها، واشتريت كتب مؤسسها “غسان توينى” من مكتبتها، وذهبت إلى “الأخبار” التى أتابعها بشغف -ورأيت جنود حزب الله يحرسون مقرها- وأُدرك أن كل جريدة من الثلاثة الكبار “النهار” و”السفير” و”الأخبار” لها توجه واضح، وتقف مع فريق محدد -كعادة الصحافة فى العالم حتى لو ادعت غير ذلك- لكن يبدو أن انسداد الأفق السياسى، والتطاحن بين الفرقاء سيآتى فوق رأس صاحبة الجلالة!
على سبيل التفاؤل:
بعد أن انتهيت من كتابة المقال أعلن مؤسس السفير طلال سلمان أنه قرر تأجيل الغلق والصمود لشهر أو شهرين
.