يحتاج عملي أن أسافر إسبوعياً من محافظتي الاقليمية في صعيد مصر الي القاهرة .. الأمر الذي يتطلب أن أقود سيارتي علي طريق السفر لأكثر من ست ساعات ذهاباً و إياباً.. لم أحتمل أن أتخذ قرار المعيشة المستمرة في القاهرة حتي الأن .. الأمر يتطلب سعة نفسية لم امتلكها قط!
في المعتاد أسلي نفسي أثناء القيادة بالإستماع الي الإذاعات الغنائية المختلفة .. ربما تمكنت من الحصول علي البوم غنائي لمطرب ما.. أو تمكنت من تذكر حمل تلك الفلاشة التي أضع عليها أغاني الثمانينات و التسعينيات المفضلة بالنسبة لي.. مازال حميد الشاعري يبهرني حتي الأن بنفس اللحن المكرر الذي نحفظه جميعاً.. و لكننا نعجب به في كل مرة وكأنها المرة الاولي!
الطريف أنني بدأت في الفترة الاخيرة في تسلية جديدة أثناء القيادة.. فقد بدأت في ملاحظة تلك العبارات التي يكتبها السائقين علي مؤخرة سياراتهم ..! هل تدرك ماذا أعني؟
إنها عادة مكررة قديمة قد إنتشرت بصورة كبيرة .. فالسائق يصر أن يكتب عبارة ما علي مؤخرة سيارته لسبب لا أعرفه..
لقد بدأ الأمر بعبارات دينية مثل “ربك هو الستار” أو ” صلي علي النبي”.. أو حتي ” مع المسيح ذلك أفضل جداً” ..إنهم يتعاملون معها معاملة ذلك المصحف الصغير الذي يضعونه علي مقدمة السيارة أمام المقود ولا يقرأ فيه أحد حرفاً.. إنه نوع من التبرك و الإستعانة بالله دون أن يضطر السائق أن يبذل جهداً في الدعاء أو ذكر الله.. لا أنسي تلك المعركة السيزيفية التي خاضتها الداخلية مع السائقين منذ عامين بشأن عبارة “هل صليت علي النبي اليوم؟!” ..لقد كتبها كل السائقين وقتها بهدف تصنع البطولة .. أعترف أنهم كانوا يحملون نفسيات خبيثة بالفعل.. فقد نجحوا في استفزاز الداخلية وقتها كثيراً…!
الأمر لا يخلو من عبارات الحسد الشهيرة والتي تعبر عن فكر المواطن المصري الذي يؤمن أن الحسد هو السبب الرئيسي لأي فشل أو إخفاق في حياته .. فتري ” عضة أسد ولا نظرة حسد” و “الحلوة عليها أقساط” أو “متبصلهاش بعين رضية دي جاية من صيغة الولية” !.. إنه التعبير المصري الرسمي لتلك “التخميسة” التي يشير بها كل من تعجب بما يرتدي أو يقود أو حتي يأكل!!
هناك عبارات أخري قد انتشرت لتعبر عن توجه السائق السياسي أو حتي حسه الوطني..! اذكر أنني ركبت سيارة أجرة في القاهرة منذ فترة فوجدت السائق يكتب علي مقدمة السيارة ” اللهم إحفظ مصر والتاكسي”!
إنه نوع من التعبير عن وجهة نظر السائق في الحياة عموماً.. إنه يرغب في إظهار وطنيته .. كما يرغب ألا يفقد الفرصة في الدعاء لله أن يحفظ كل ما يملك في الدنيا.. سيارته التي يقتات منها!!
و لكني لاحظت أن الأمر قد اختلف كثيراً في الأيام الأخيرة..
لقد تحولت العبارات الي إعلانات دعائية عن قوة أو ذكاء أو حتي “صياعة” السائق.. لقد بدأ السائقون في التنافس في العبارات التي تعبر عن مدي قوتهم و سطوتهم..
العبارات معظمها كوميدي .. تحمل سجعاً نشتهر به في بلادنا الحبيبة كوسيلة لجعل الكلمات أسهل حفظاً وأكثر
سلاسة..فالبعض يكتب ” اللي يدوس علي طرفنا.. يستحمل قرفنا”.. إنه نوع من التحدي لمن يجرؤ و يعتدي علي السائق أثناء القيادة بالطبع..! نوع من التهديد الضمني أنه لن يصبح ذلك السائق المهذب إذا ما حاول البعض تجاوز قوانين القيادة معه.. !
هناك آخر يكتب ” العيلة اللي مفيش فيها عيل صايع حقها ضايع”!! .. إنه تحريض صريح أن يبدأ كل أب في تجهيز أحد أبنائه ليصير “صايع”.. إنها الثقافة التي تنتهي في معظم الأحوال أن يلتحق هذا الإبن بكلية الشرطة!!
التحول الأخير يعبر عن ثقافة الشعب التي اختلفت كثيراً بعد الثورة .. فقد أصبحت تعبر عن القوة و السيطرة بعيداً عن القانون أو الحكومة.. فالكل قد قرر أن يحصل علي حقه بذراعه فقط.. فتجد ” تعمل حسابى أقدرك .. تهزر معايا أعورك ” أو ” اللي يلك كتير هنحطه في برميل”..و هو تطور خطير من وجهة نظري!!
إنه إعلام من نوع خاص جداً.. إعلام لا يحتاج لكل التعقيدات التي يستخدمها الإعلام التقليدي ليعبر عن رأي صاحبه..!
في اوروبا يستغلون تلك المساحة في مؤخرة سيارات الأجرة للدعاية عن منتج ما.. و لكن سائقينا قد قرروا أن تصبح مجلة
الحائط الخاصة بهم ليعبروا فيها عن رأيهم الشخصي الذي لا يذكره أحد.. أو يهتم به من الاساس!!
إنه إنعكاس لثقافة الشعب التي تتبدل كل فترة ليست بالطويلة.. ربما كان هذا التنفيس البسيط سبباً ليصبروا علي كل مشاكلهم التي يواجهونها مع المرور و البلدية و غيرها من الهيئات التي تتفنن في مضايقتهم .. وربما يكون سببا أيضاً .. لأكتشف تسلية جديدة ..في ساعات السفر!!
.