قبل عشرة أيام تقريبا ، سعدت جدا بالمشاركة في نقاش مستفيض مع مجموعة محترمة من الاصدقاء ، من أكاديميين وسياسيين وكتاب رأي ، حول كيف يمكن أن تُدار الدول بشكل يلبي الطموحات الحقيقية للشعوب وبما يحفظ للدولة سيادتها وهيبتها وامنها القومي ، دون الانزلاق في عشوائية القرارات وارتعاشها أو لأن تكون ردود الفعل المشوشة هي السمة الغالبة على تلك القرارات وايضا بما يخلق علاقة ثقة بين الدولة والشعب وهي العلاقة التي لم تصل الى درجة مـُرضية حتى الان .
استمر نقاشنا قرابة الساعتي تنوعت بين الحديث عن الأزمة المحورية التي يعاني منها أصحاب القرار بشكل كبير والتي تتركز في كيفية إختيار من يقود أو يتولى المسؤولية سواء كان على رأس حقيبة وزارية أو محافظة أو أي من المواقع الرفيعة والحساسة والهامة في الدولة .. وهل هذا التعيين يتم وفقا لاعتماد من هم أهل للخبرة أم أهل للثقة ؟
وتبادلنا التساؤلات حول من هم الأجدر في المفاضلة في تعيينهم أوانتخابهم ؟ أهل الثقة ومن تطمئن لهم الأنفـس وتثق فيهم الأفئدة ؟ أم أن أهل مكة الذين هم أدرى بشعابها بخبرتهم وعلمهم وكفاءتهم هم من ترجح كفتهم ؟
انتهى النقاش بيننا بانقسام الاراء بعد احاديث ثرية متشعبة وأطروحات أخرى مخيفة !… وغداة هذا الحوار استوقفني رأي محترم في نفس الخصوص بقلم الخبير الاستراتيجي والعسكري ومستشار الأمن والدفاع لمنطقتي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا – اللواء سيد غنيم – نشره على صفحته الشخصية على الفيسبوك ومفاده ان سيادته كان يضرب مثلا بنفسه بانه وعلى الرغم من حصوله على مراتب وظيفية رفيعة ودرجات علمية وتدريبية عليا في مجال تخصصه “العسكري” الا انه لايعتبر نفسه الافضل لشغل مناصب بالادارة العليا “المدنية” في الدولة لمجرد استمرار الاجتهادات في تبني فكرة الاعتماد على أهل الثقة أكثر من أهل الخبرة على حد تعبيره ! … ما لفتني وأدهشني في رأي اللواء غنيم هو انه جاء متزامنا مع اهتمامي شخصيا منذ مدة بهذه الجزئية الهامة وانشغالي بالبحث عن المعايير الحقيقية التي يجب الاستناد اليها في إختيار من يشغلون المناصب القيادية الهامة والمتخصصة في الدولة ، الامر الاخر والهام هو إثارة هذه الجزئية من قبل شخصية تحظى بمكانة علمية وخلفية عسكرية استراتيجية حقيقية وفي رأيي كما كثيرين بانه رجل جمع بين أهل الثقة والخبرة معا ، وهو قلمـّا نجده وسط هذا الكم الهائل ممن نسبوا لانفسهم مؤخرا صفة محلل ، وخبير أمني واستراتيجي !…
وعلى الفور لم أتوانى في التعليق عند اللواء غنيم متستفسرة منه عن رأيه في الكيفية الانسب لإدارة الدولة ؟ وعلى ماذا يعتمد اصحاب القرار فعليا في الاختيار ؟ هل على اهل الخبرة أو أهل الثقة ؟ وكيف يمكن حسم جدلية الواقع ومايجب أن يكون في هذا الخصوص ؟ وقد جاء رد سيادته واضحا ومنطقيا وهو ضرورة الخروج من عباءة الأهليـْن والبحث عن الشخصيات المناسبة طبقا للمعايير العلمية في الاختيار من كافة الجوانب .
أنطلق من هذا الاقتباس أو الاستدعاء – للمعايير الغائبة في إختياراتنا وتأثير ذلك الكارثي على حاضرنا ومستقبلنا الذي يزداد غموضا وضبابية .
ربما التعديلات الوزارية المتكررة التي شهدتها الحكومة المصرية في أعقاب ثورتي 25 من يناير و 30 يونيو وماتبعها من تغييرات جذرية طالت مرافق واجهزة حيوية هامة ، عكست بوضوح طبيعة هذه الجدلية التي لاتقتصر فقط على التعيينات التي تتم لكبار المسؤولين فحسب بل هي ممتدة ومتدخلة بشكل أو بآخر في حسم الاختيارات ايضا في العمليات الانتخابية عموما سواء الرئاسية او البرلمانية – فحتى الاختيار المتاح بالانتخاب والتصويت الحر المباشر يعتمد على هذه الجدلية قبل الحسم واتخاذ القرار .
لا استثني ايضا من حديثي ، التغييرات الكبيرة التي اطلقها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز ال سعود فور توليه الحكم في القيادات الحيوية أو غربلة قيادات النخبة في الصف الاول بالمملكة والتي غيرت من اداء وايقاع السياسة السعودية داخليا وخارجيا ، فهل وقع الاختيار على أهل الثقة والامانة والوفاء أم الخبرة ؟ … ايضا التغييرات الوزارية المتواترة واعادة الهيكلة الحكومية من حين الى آخر في مملكة البحرين تطرح التساؤل نفسه ؟ وحديثا التغييرات التي طالت ابرز القيادات السياسية الحاكمة في اليمن وهما نائب الرئيس ورئيس الوزراء !
النماذج السالفة الذكر في رأيي تسترشد في اختياراتها على أهل الثقة بشكل أكبر من أهل الخبرة ولاتمازج عادة بينهما الا فيما ندر ! ربما ينصح المستشارون وهم (كـثـُر) بذلك مبررين ظروف عدم استقرار المنطقة العربية وتكالب المؤامرات الواضحة ضدها من الداخل قبل الخارج وأهمية استقطاب أشخاص ثـُـقاة او “كما يحسبونهم كذلك” ، دون الارتكاز في اغلب الاحيان على مدى ملاءمة هذه الشخصيات للموقع الذي يتم وضعهم فيه وفقا لمعايير محددة كالكفاءة والخبرة والتخصص وتحقيق الاهداف استناداً لأسس علمية ومنهجية مدروسة وليس لمجرد تحقيق الاهداف من باب الطاعة أو الحاجة فسب !
لاأعلم في الحقيقة ما الأضرار التي قد يراها أصحاب القرار ولانراها نحن ، من منح الفرص الحقيقية لمن يستحقون دون الاكتراث للعـُمر أو المستوى الاجتماعي أو الخلفية العائلية ودون الانسياق وراء النزعة القبلية والمجاملات ؟ ما المانع من وضع الشخص المناسب في المكان المناسب وفقا لمعايير وأسس يتم اعتمادها وتطبيقها لمزيد من التقدم الحقيقي ؟
دائما ما نتشدق بمصطلحات لاتستخدم الا للاستهلاك الاعلامي وفي الخطابات الجماهيرية او في المناسبات العامة ، وفي حقيقة الامر لايطبق اي من هذه العبارات المعقدة والعويصة على فهم العامة احيانا ولكن على الجميع تجرعها والتسليم بأنها عين الصواب والحكمة ؟!!…
لذلك فعندما نقارن انفسنا بالدول الغربية او النمور الاسيوية يجب علينا أن نتوقف كثيرا قبل عقد مقارنات جارحة من هذا النوع ونتساءل اولا : ماطبيعة من يديـرون هذه الدول والمجتمعات ؟ وكيف يعملون ، ووفقا لأية معايير وأولويات ؟ مصيبتنا أننا نؤمن وندين بالولاء للأشخاص والافكار والمعتقدات أكثر من إيماننا الحقيقي بالأوطان … وعندما نكون قادرين على التخلص أولا من هذه العقيدة البالية والهدّامة ، وقتها فقط ستتولد الحاجة الحقيقية للتطبيق السليم في الاختيار والتخطيط والتنفيذ اعتمادا على أهل الجودة والمُلاءمة – فالبقاء دائما للأصلح.
الصفحة الرسمية للصحفية والكاتبة هند كرم من هنــا
.