أكتب لك اليوم وجعاً وليس اشتياقاً، أتخيلك وأنت تقرأ تلك الكلمات وجهك .. اقتضاب جبينك ورفع حاجبيك .. جلستك .. حركة يديك التى ترسم على الطاولة بلا حبرٍ آهاتى .. ولكنى لا اشتاق رغم كل ذلك، بل يحترق قلبى آلما، ربما لأن تلك المرة تجرعت بيديك أنت كأس الخذلان.
الخذلان .. ما أشد مرارته، تثق فى المحبوب وتفقد نفسك فى روحه مسلماً أمرك له دون خوف، تقف على حافة الهواية واثقاً أنه لن يفلت يدك أبداً، ولن يسمح لك بالسقوط وقلبك متلهف لرؤية النور، وتبدأ يداه تفلت يدك تدريجياً وأنت تبكى طالباً العون وهو لا يرى فى دمعاتك سوى أنها ثرثرة وإلحاح غبى، وحاجتك للاحتواء التى تعد طلباً لا نبوح به سوى لـ آخر القديسين.
لم يرى فيه سوى خطيئة تتطلب الهجوم وغير مسموح لك بالدفاع عن نفسك وكلما حاولت أن تفسر له حاجتك فى أن تضع رأسك على كتفيه لأن روحك منهكة ولا تحتمل المزيد، واصل الحرب والعراك وأنت تحتضر وهو يواصل طعناته .. تصرخ يزيد من الجلدات .. تقع لا ترى فى عينيه نظره محبة بل هجوم فهجوم فهجوم .
وما بين الكرامة والمحبة أتخبط آلما، ما بين تلك الطفلة التى تحتاج سند يحمى ظهرها من نكبات الأيام، وما بين الصبية التى تشتاق لرؤية النور، وما بين المرأة الناضجة التى ترتدى ثوب الكبرياء، أبكى خوفاً تارة وتارة أقدم ضاربة جميع الحسابات بعرض الحائط مقابل وصلك.
وتارة يحترق قلبي على كرامتي التي تنتهك أمام عيناي ولا أقوى على الدفاع عنها خوفاً على قطع حبل الود المتهالك من كثرة شدك له، فلا أملك سوى أن ألملم شظايا كرامتى والتى تغرس فى صدرى كلما حاولت أن أجمعها مرة أخرى.
عندما كنت أواجه الدنيا بمفردى، اعتدت المحاربة فى الظلام، كنت أخشى النور لأنه سيكشف عن ثوب قوتى المرقع بخيبات الزمن، وجئت أنت منحة من الله اعتبرتك هكذا، فقد طلبت من ربى آيه يطمئن بها روحى الخائفة فأرسلك لى آيه رحمة بقلب طفلة تخشى الغرباء.
آمنت بك وكفرت بجميع معتقداتي من قسوة وكبرياء وكرامة خادعة، أيقنت أن الضعف فى حضرة المحبوب أسمى أشكال القوة، ورغم أننى لم أبصر النور فى نهاية النفق آمنت أنه سيظهر لا محال لأنك موجود، ولا تسألنى لمَ أنت فالأرواح التى يجمعها الله لا أحدا منا يعلم سبب لقاءها.
ما أقسى أن تتخلى عن معتقداتك من أجل شخص وفى النهاية تجد السور الذى علقت روحك عليه ما هو إلا سراب .. فقاعة اختبار تبخرت فى الهواء مع أقل تصادم فتجد نفسك فى العراء بلا مأوى ولا دفء ولا نور، فتدرك حينها أن الحب قاسى للغاية لا يرحم يقتل روحك على فترات فلا يصبح لها أملا فى الشفاء.
فى تلك اللحظة التى تستحى فيها دموعك من البكاء خجلاً مما تعانيه، ولأن البكاء سيصبح مضحكاً حد الوجع، تدرك أنك لن تعاود تصديق أحداً مهما كان ولن يعاود قلبك الخفقان ولن تضىء عينيك مهما حييت، فالشمس لا تشرق مرتين فى اليوم وهكذا قلبك لا ينبض مرتين، وذلك سر تشبثك ببقايا الأمل فى عز ذبحه لك فالمحب لا يقوى على إيذاء محبوبه وهذا مذهبى.
لست ساذجة أو ضعيفة، ولكن جزء من قوتنا الفضلُ فيه إلى هؤلاء الذين نعتبرهم سند لجدار الروح الآيل للسقوط، من يمنحونا الأمان، من هم رفقاء للروح، ولكن هل من العدل أن يعم الظلام هكذا من دون سابق إنذار؟، أن يأخذ أحدهم الشمس وبذور الفرح ويرحل دون أن تطرف عينيه رحمة بنا، ويتركنا ضائعين بين تروس الحياة القاسية.
ما كان لابد أن تضىء النور يا آخر القديسين، فتلك الأمنيات التى حققناها ترهقنا أكثر من التى لم نحققها، فبعد أن رأينا النور .. هل بإمكاننا معاودة المحاربة فى الظلام؟، هل سيعود شغفنا بالحياة؟، هل سنرى الضوء ينير أعيننا مرة أخرى؟، أم سنظل أسرى الحزن؟، فالخوف من الحزن على ما ملكناه أكبر من الخوف على ما لم نملكه يوماً.
ليتك تعلم أن قسوة الخصام لا يستحقها من غرقت روحهم فينا زهداً دون انتظار مقابل، وأننا لا نتصالح مع أنفسنا إلا عندما نسامح من كان يوماً يلملمنا فى دعائه حينما تُبعثرنا الدنيا، ومن هنا حتى نلتقى بعد أن افترقنا وعلى الله الرجوع فهومن يجمع وهو من يفرق، هل سأكون يومها جميلة ؟ .. لا اعتقد فمن تُطفأ عيناه وتبهت روحه لا يزهر مرة أخرى.
.