بغض النظر عن السر في إطلاقها باسم مصر وتناولها الشأن المصري بالتحليل والمتابعة الإخبارية، مع أنها فضائية غير مصرية بالأساس.
وبغض النظر عن تعبيرها الفج عن ميل سياسي واضح، والذي يبعدها تماما عن قواعد ومباديء المهنية التي يجب مراعاتها أثناء ممارسة الإعلام.
وبغض النظر عن موقف النظام المصري الحالي من تلك القناة الفضائية القطرية، والذي كشف للجميع مدى وهن الفكر الذي يسير في ضوءه هذا النظام بعد أن نزل بمكانة مصر إلى الحضيض واعتبر قناة فضائية ودولة هي الأصغر حجما والأقل ثقلا في المنطقة ندا له عندما سمح بمن ينوب عنه في التصريح ضمنا بأن إغلاق القناة هو شرط مصر للتصالح.
وبغض النظر عن مئات الصحافيين والفنيين والمصورين والمنتجين والعمال الذين لا نعرف بعد مصيرهم بعد وقف بث القناة التي كانوا يعملون بها.
بغض النظر عن كل ماسبق، تبقى “الجزيرة مباشر مصر” مشروعا إعلاميا بدأ وانتهى مخلفا وراءه الكثير من الأضرار بكل من عمل به أو شاهده وحتى الإعلام ومصداقيته نال منهما هذا المشروع وألحق بهما أضرارا بالغة قد يستغرق التعافي منها سنوات طويلة.
ولأن الجزيرة مباشر لم تكن وحدها أثناء هتك عرض المهنية وانتهاك حرمة الموضوعية، بل كانت طرفا واحدا من أطراف اشتركت في تلك الجرائم في حين كان الطرف المقابل هو الفضائيات المصرية، لا يمكننا استبعاد ملاقاة تلك الفضائيات نفس المصير.
وحتى لو اختلفت طريقة إغلاق أو بث الفضائيات المصرية عما حدث في الجزيرة، فسوف يكون نفس المصير المحتوم الذي يؤدي بها إلى “خط النهاية” في سباقها نحو القاع.
فشبكة الجزيرة التلفزيونية العملاقة، ذات الموارد غير المحدودة، أوقفت بث مباشر مصر دون المساس بالشكل العام والمكانة التي تحتلها بين الجمهور العربي.
أما السيناريو المتوقع لسقوط الفضائياتالمصرية، فأرجح أنه لن يكون بذلك الحرص على الشكل العالم لأنها لا تتمتع برفاهية الوقت للاعتذار عن الاستمرار بلباقة كما فعلت الجزيرة ولن تتمكن أيضا في لحظات السقوط أن تطلق وعد بالعودة في ثياب جديدة.
ولا تكتفي تلك المحطات التلفزيونية، التي يبدو أداءها أقرب إلى حملة انتخابية مستمرة للرئيس عبد الفتاح السيسي، بالدعم المستمر للنظام والهجوم المتواصل على المستمر على معارضيه منفذين بذلك فكرة “الأذرع الإعلامية” التي ورد ذكرها على لسان السيسي عندما كان وزيرا للدفاع. ينفذون ما جاء في أحد التسريبات على لسان الرئيس المصري من ضرورة أن تكون للقوات المسلحة “أذرع إعلامية” ويهبونها تلك الأذرع مجانا.
نهاية السيناريو القادم هي بالفعل “النهاية” لكل المشروعات الإعلامية الموجودة على الساحة في الوقت الراهن والتي سوف يتخلى عنها النظام المصري كما تخلت قطر عن مباشر مصر، ولكن بعد أن تؤدي مهمتها في تمكينه على أكمل وجه. الفارق الوحيد هو أن قطر أغلقت ما تملكه وما كانت تنفق عليه من أموالها، أما لدينا هنا في مصر، فسوف يدفع النظام تلك االقنوات إلى وقف البث بعد أن أنفقت هي على تمكينه.
فمباشر مصر كانت ذراعا إعلاميا للنظام القطري يساند من خلاله من يساند ويدعم من يدعم ويهاجم من يهاجم بما يتفق مع مصالحه. وينطبق ذلك على الفضائيات المصرية، لا أستثني أحدا، التي اجتمعت على نفس الخط وسارت على نفس النهج في دعم النظام الحالي في مصر والهجوم على كل من تسول له نفسه انتقاده أو معارضته.
ساعتها لن يقدم البكاء على اللبن المسكوب جديد. وساعتها أيضا لن يضار الكبار الذين نجحوا في حصد ثروات هائلة في سنوات قليلة، إنما الصغار الذين يقومون بكل الأعمال تقريبا وينحتون في الصخر من أجل تقديم برامج تشبه المنتج الإعلامي إلى هم من سيحملون أوزار الجميع وسوف يلقون نفس مصير العاملين بقطاع السياحة.
عندما يشحن النظام طاقته ويشعر بعدم الحاجة إلى الأذرع، بالتأكيد سوف يقطعها حتى يتخفف من أحماله. فهل أنتم مستعدون لمواجهة ذلك المصير.
أعتقد أي من الإعلاميين الشباب أو حتى المخضرمين الذين لا زال لديهم الحد الأدنى من المهنية لن يرضيهم ذلك المآل، لكنهم في نفس الوقت يقفون موقف المتفرج بحجة أنهم غير قادرين على مواجهة التيار العام. وللأسف الشديد، سيكون أقوى إجراء يمكنهم اتخاذه هو مصمصة الشفاة والنظر إلى الأوضاع بعين ممتلئة بالدموع.
هذا هو الإجراء المتوقع من شيوخ المهنة ورعاتها الذين سلموا مقاليد الأمور لأصحاب رؤوس الأموال والسلطة في وقت تتوافر فيه بدائل عديدة، لكنها تحتاج إلى تحرك وقبل التحرك تحرر من كل القيود التي تحول دون تقديم منتج جيد يحترم عقول الجمهور.
الحل الذي يحتاج إلى التحرر ثم التحرك هو مؤسسة إعلامية مستقلة برأس مال يُجمع من كل من يعملون بالمهنة. الحل هو أن تنطلق الدعوات داخل نقابة الصحافيين وكل الجهات العملة بالصحافة وجميع الرموز الصحافية التي لم تُلوث ولم يصبها فيروس انعدام المصداقية، أن تنطلق تلك الدعوات لجمع جنيه شهريا من كل صحافي ومصور وفني وعامل في مجال الإ علام برعاية وعلى مسؤولية جهة أو كيان قانوني يتولى جمع تلك الأموال ويبدأ في إنشاء تلك المؤسسة ليجتمع بها الجميع وقت السقوط ويحتمون بها من غدر إعلام السلطة.
ولتكن مؤسسة إعلامية قوامها كل من يؤمن بالمهنية ويأبى على نفسه المشاركة في مسرحيات هزلية يومية تقدم على الشاشات. ولتكن سفينة نوح الإعلاميين المصريين المحترمين. ولتكن ملاذا لكل من يريد تصحي مساره دون نبذ أو إقصاء لأحد مهما كانت توجهاته الماضية ومهما بلغت ممارساته وانتهاكاته لأصول المهنية الإعلامية. لتكن طاقة نور يسطع في هذه العتمة التي تخيم على الشاشات. ولن يُقصى وقتها إلا من يقول “سآوي إلى نظام يعصمني من الانهيار”.
تابعونا عبر تويتر من هنا
تابعونا عبر الفيس بوك من هنا