حالة من الارتباك والشرود إنتابتني قبل البدء في كتابة هذا المقال .. لأول مرة أفقد البوصلة لتحديد الفكرة العريضة على الأقل لما أود التحدث عنه رغم شروعي في الكتابة منذ ايام ! ربما من هول الأحداث المتتالية وليس قلتها ،، والتي هي أحداث أشبه بالصفعات لانلبث أن نستفيق منها حتى نستدير ونتلقى الصفعة الاخرى بتأثير أقوى وأكثر إيلاما .!
الاسابيع الاخيرة مررنا بعدة أزمات متنوعة وأخرى توابع لأزمات قديمة “متجددة ومشتعلة … فمن أزمة اختطاف الطائرة المصرية والهبوط بها في قبرص التي ( لازالت مفتوحة ) ، الى تداعيات المشهد المعقد في أزمة مقتل المواطن الايطالي في مصر جوليو ريجيني (لازالت مشتعلة ) ، مرورا بأزمة إقالة رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات المستشار هشام جنينة والازمات المتكررة للوزارات المتعثرة ومجلس النواب الغائب ، وأخيرا أزمة اللغط الدائر في وسائل الاعلام حول تبعية جزيرتي تيران وصنافير الحائرة بين مصر والسعودية والتي تفجرت عقب توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية كواحدة من بين أهم الاتفاقيات والتفاهمات الموقعة خلال الزيارة التاريخية التي يقوم بها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز الى مصر …
وكما اعتدنا أن في مصر ” الهـَري” بالعامية – أو “لـَـوْك الحديث بلامعنى ” بالفصحى ، لايتوقف أبدا في كل شيء وغالبا لا لأي شيء سوى الهري في حد ذاته ! ولعل مايفتح المجال على مصراعيه لهذا الهري واللـَوكْ والفتي ويمهد له الطريق تماما ، هو غياب الحقائق وعدم الوضوح والشفافية في تدفق البيانات الرسمية والمعلومات الصحيحة والمنطقية من أجهزة الدولة للرأي العام والاعلام بالشكل المطلوب وفي التوقيت المناسب ، وعادة مايـُعزّى هذا الغياب الى مبررات سيادية أو الحفاظ على الامن القومي أولأسباب سرية أمنية مخابراتية ! ….. ربما …….
ولكن ان يصبح القصور والتغييب المجتمعي في تقديم المعلومات في تعاطينا مع الازمات هو السمة المميزة لتحركاتنا يطرح الكثير من علامات التعجب والاستفهام ويقودنا الى التسليم باننا للاسف ” دولة بلا سياسة إعلامية” ؟؟؟!!!!!! كما انه أداء غير محمود أو مبرر و لايخدم الازمة أو ماقد ينتج عنها لانه ببساطة لايقطع الطريق على الجهلاء والللائكين والمنظرين والمستعرضين والمزايدين والمتفذلكين داخليا وخارجيا – من اللحظة الاولى بشكل قاطع وحاسم والاهم بشكل “مقنع” .
الازمات التي مررنا بها مؤخرا وتحديدا منذ أحادث تفجير الطائرة الروسية في سيناء في اكتوبر من العام المنصرم 2015 ، أثبتت عدم نجاحنا في إدارة هذه الازمة وماتبعها ولكي أكون مركزة ومحددة أكثر فأنا أعني في هذا المقال الخلل الذي تعاني منه الدولة في كيفية التعاطي الاعلامي والمعلوماتي والمجتمعي مع الازمات وليس تعاطيها السيادي والفني والمتخصص والامني .
مانفتقده في تعاملنا مع أزماتنا (كبرت أو صغرت ) هو في حد ذاته أزمة ! تستند في أساسها على التغييب المتعمد للرأي العام عما يدور حوله عبر عدم الوضوح وعدم تقديم الحقائق او حتى الاكاذيب في التوقيت والقالب المناسب !… جميع الازمات التي ذكرتها في معرض هذا المقال وقعت في هذا المأزق بلا استثناء ، ورغم ذلك تفاجأنا بالاراء التي تروج لحسن وكفاءة ادارة الدولة للازمات ببراعة واحتراف غير مسبوق حتى بات المخالف لهذا الرأي شخص عميل ومتآمر وجاهل ! فهل وصلنا الى هذا الحد من العمى حتى فقدنا القدرة على الابصار والفهم وإعمال العقل ؟؟!!
بالنظر الى المشهد المتأزم يوما بعد يوم في علاقات مصر وايطاليا ( المتميزة ) على خلفية قضية الشاب الايطالي ريجيني المقتول بالقاهرة في 25 يناير الماضي ،، لازلت لاأتفهم كما ملايين آخرين طبيعة صمت السلطات المصرية المطبق عن تقديم معلومات واضحة او افادات مقنعة للجانب الايطالي وللرأي العام من شأنها أن تغلق هذا الملف إما بإثبات ماينفي تورط الاجهزة الامنية المصرية في جريمة قتل وتعذيب ريجيني وهو ما تلمح له روما ضمنيا وتسعى لاثباته بشتى الطرق – لاسباب لازالت مجهولة ! ، وإما ان تغلق الملف بتقديم مصر دلائل تثبت الجهة الحقيقية المتورطة والمستفيدة من الجريمة بدلا من تصدير الروايات المستهلكة والغير مقنعة ،، وخلافاً للوضوح والشفافية التي طلبتها ايطاليا من مصر صراحة فأن الدولة المصرية بأجهزتها الأمنية والدبلوماسية حاليا في مأزق حقيقي غير واضحة تداعياته خاصة بعد وقف عمل فريق التفاوض القضائي المشترك في روما واستدعاء السفير الايطالي في القاهرة للتشاور وتصعيد لغة التعنت الايطالي في وجه مصر وتعبير مصر في المقابل عن الاستياء من هذه اللغة !
في ذروة هذا الـتأزيم السالف الذكروالذي لازال متازما ، حلت الزيارة التاريخية لخادم الحرمين الشريفين الى مصر حاملة معها الكثير من المفاجآت كانت مغلفة بباقة من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم المشتركة بين البلدين والتي تمثل دعما اقتصاديا وتجاريا وسياسيا هائلا لمصر بحجم استثمارات سعودية قارب الثلاثين مليار دولار تنوعت بين مشروعات حكومية واخرى استثمارية خاصة … اضافة الى الاعلان عن تشييد الجسر البري بين البلدين …. وهنا كانت المفاجأة التي تسببت في حدوث الأزمة التي لم تنتظر انتهاء الزيارة حيث أشعل توقيع اتفاقية إعادة ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية – غضب واستياء المصريين الذين تفاجأوا بما نتج عن هذه الاتفاقية من إقرار بتبعية جزيرتي تيران وصنافير الواقعتين عند مدخل خليج العقبة قبالة سواحل مصر الشرقية بالبحر الاحمر وفقا للحق التاريخي والجغرافي وللمواثيق والمعاهدات بين البلدين .. هذه المعلومات لم تعلن عنها الدولة المصرية ولكن اعلنتها المصادر السعودية اولا وبدأ المصريون يتلقفون الاخبار الشاردة والواردة الحقيقية والباطلة من مصادر ابعد ماتكون عن مصادر رسمية من دولتهم رغم ان المر يتعلق بالسيادة على الاراضي المصرية !
لقد تفاجأ المصريون بعد دهرٍ وعقود من الزمان من المعلومات والتاريخ المسلم به بأن الجزيرتين السياحيتين اللتين لاتخلو أية رحلات سياحية لشرم الشيخ وراس محمد جنوب سيناء من زيارتهما والمدرجتين في مناهج التاريخ والجغرافيا والتربية الوطنية بالمدارس المصرية على انهما جزر مصرية ومن أجمل وأهم المحميات الطبيعية في العالم أصبحتا بجرة قلم ودون مقدمات وفي جلسة توقيع تاريخية بقصر الاتحادية ، اصبحتا جزيرتين سعوديتين بل وعلى المصريين التسليم بأنهما كانتا أمانة وهاهي قد حان وقت إعادتهما الى أصحابها …
لا اناقش هنا التبعية للجزيرتين ولكن كما ذكرت سالفا أتناول كيفية ( تعاطي الدولة مع الازمة ) “بعد” تفجرها اعلاميا والكترونيا بشكل مشوش مع طوفان “الهـَري واللـَـوْك” …
وكعادتنا مارسنا هوايتنا المفضلة باحتراف وهي عدم الادارة الصحيحية للازمة عبر التعالي عن توضيح حقيقة مايجري وعدم مصارحة الشعب بحقه الطبيعي في المعرفة بإصدار تصريحات رسمية او بيانات موضحة للموقف مثار اللغط او توضيح بنود الاتفاقية والحرص على تقديم بيانات مفندة على اساس علمي وتاريخي ومنهجي ومعلوماتي دقيق بدلا من اتباع سياسة التغييب وترك الامور على عواهنها لفتاوي وتجاوزات الاعلام وعباقرة التنظير في الجهل والباطل والذين فجأة تحولوا جميعا الى علماء في التاريخ وخبراء استراتيجيين في القانون الدولي والمعاهدات واتفاقيات ترسيم الحدود الدولية !..
والنتيجة هي مانشهده الان من أجواء الفوضى المعلوماتية والاعلامية التي بالتأكيد ستُترك حتى تتلاشى تلقائيا كالعادة بظهور ازمة جديدة تخطف الانتباه ، ولكن بعد فوات الاوان وبعد ان تتراكم الازمات فوق بعضها البعض ويقع الكثير من الاخطاء الأكثر فداحة ..
ما المانع من بيانات واضحة كبيانات القوات المسلحة الرسمية والسريعة والمباشرة والتي تقطع الطريق على اي جهة تهوى التلاعب بالمعلومات وقد تضر بالامن القومي للدولة ؟ أيا كانت الحقيقة أو نوايا الدولة التكتيكية او الاستراتيجية او الثنائية من وراء هذه الاتفاقية – الا اننا من المهم ان نتفق على ان الدولة كانت تعلم جيدا بماسيحدث وتعرف تماما كيف تمهد للشعب (إن أرادت ) بان خطوة كهذه قادمة وستكون مثيرة للجدل والانقسام واللغط … وهذا هو الجانب الهام والحيوي في مفهوم كيفية “الادارة الاستباقية” للازمات المتوقعة سلفا وليس فقط وقت وبعد وقوعها !.
غالبية الشعب المصري البسيط لاعلم او دراية له بهذه التفاصيل حتى المثقفين والمتعلمين منهم ، لايعنيهم من هذه التجاذبات الا أن يتلقى تصريحات مقتضبة واضحة ومباشرة ومن مصدر رسمي بالدولة يثق فيه ليقول له القول الفصل. أليس هذا ما طلبه الرئيس السيسي عندما طالب المصريين بألا يصدقوا أحدا غيره منعا للبلبلة وفوضى المعلومات ؟! ماذا إذا كانت الحكومة لاتسعى لتقديم معلومات واضحة في وقتها حتى يصدقها المصريون ويتركوا عنهم الهري ؟!!!. وهل سنسمع مانصدقه حول هذه الازمات خلال اللقاء المرتقب للرئيس مع فئات المجتمع بعد يومين ؟ وهل ستكون هذه الفئات قادرة على اقناع المصريين بان الدولة تدير الازمات والامور بشكل صحيح وصائب أم ستزيد من إحباطهم ؟!!
وحتى وبعد ان اعلن مجلس الوزراء ووزير الخارجية المصري تبعية الجزيرتين للسعودية عبر لقاءات تلفزيونية وليس بيانات رسمية ، فلاتزال هناك جهات رسمية اخرى في الدولة وبحثية وعلمية واكاديمية وقيادات عسكرية موثوقة ومحترمة لازالت تصر على إثبات غير ذلك بالعودة للتاريخ والمواثيق الدولية والخرائط المختلفة لترسيم الحدود وبنود الدستور المصري والقانون والتي تقول ان الجزيرتين مصريتين !!
وعلى ضوء هذه المشهد الغاية في التعقيد تتجلى الازمة الحقيقية وهي اننا دولة بلاسياسة اعلامية حقيقية وأثبتنا الفشل المتكرر في التعاطي مع الازمات والاقرار بحق الشعب في المعرفة حتى يكون هذا الشعب سندا وداعما لقيادته عن فهم وقناعة وليس عن جهالة وانسياق وتنويم !
الصفحة الرسمية للصحفية والكاتبة هند كرم من هنــا
.