في الوقت الذي كنا نعتقد فيه أن الإعلام غير المهني، الذي يعتمد على الصوت العالي، والعمل للدفاع عن مصالح وليس مصلحة المشاهد أو الوطن، يمكنه أن يجعل صورتنا “وحشة” أمام العالم، أو الضحك على المتلقي في موقف عابر، أو اتباع سياسة الإلهاء في كثير من الأوقات، اكتشفنا في الآونة الأخيرة أن هذا النوع من الإعلام يمكنه أيضاً أن يُروج إلى أن التمسك بالأرض “خيانة”.
هذا ما حدث خلال الأيام الماضية، من قبل إعلاميين مصريين، خونوا واتهموا بالجهل – في أحسن الأحوال – كل من صرح بأن جزيرتي تيران وصنافير مصريتان، وهو عكس ما يقوله سادتهم سواء هنا في النظام المصري، أو في السعودية، حيث كانت البداية، نفي تام لأن تكون الحكومة المصرية قد اتخذت قرارا بالتفريط في الجزر ، ولكن بعد البيان الذي لم يقل حتى بأن مصر ستتنازل عن سيادة او إدارة أو أي تسمية يحرفونها لمصرية الجزر، بل أقر بأن الجزر “سعودية أصلًا”، وكأنه أمر مفروغ منه، لتبدأ حمى التبريرات لإعلاميين اعتبروا أن الوطنية هي بقاء الحاكم لا الأرض.
الصدمة التي ربما تكون أعمت عيون الكثيرين من مؤيدي الرئيس السيسي، جعلت ثقتهم تهتز في مصرية أرضهم، خوفًا من إصابتهم بالخذلان تجاه رئيس اعتبروه قائدًا ضد من أرادوا من قبله التفريط في حدود مصر الجنوبية، يمكن أن نعذرهم “حتى تزول الصدمة فقط”، لكن الإعلامي المدرب على أن يواجه الكاميرا والجمهور، وهو متحكم تماما في مشاعره، أو هكذا يفترض أن يكون الإعلامي المهني، لا يجب أن نسامحه أبدًا على عرض أوراق مضللة على أنها وثائق، لتكون أقرب إلى ذر الرماد في عيون المشاهد لا دليل يُقدم له حتى ينام وهو مطمئن على وطنه.
ما أظهر ذلك بوضوح، هو تهافت هؤلاء الإعلاميين على عرض الخطابات التي أسمتها الحكومة “وثائق”، بين عصمت عبد المجيد، وزير الخارجية المصري بين عامي 1984وحتى 1991، وسعود الفيصل، وزير الخارجية السعودي السابق، يتحادثان خلالها عن سعودية تيران وصنافير، والأكثر إثارة للسخرية، أنهم روجوا على أن إتاحة هذه الخطابات، هو الكشف عن “وثائق سرية”، تفضلوا بها علينا حتى يعرضها إعلاميو النظام والمستفيدين منه، وكأنها وثائق لا خطابات، فإذا تأملوا المشهد بموضوعية، فإن قيمة هذه الخطابات هي من قيمة بيان الحكومة الذي أقر بسيادة السعودية تيران وصنافير.
لكن “كل حاوي وله طريقة”، فهناك من عرض الخطابات، ثم اعتبر أن ذلك يمكن أن يُفحم المؤكدين على مصرية أرضهم، حتى بدأ في سب وتخوين من يقر بمصرية الجزر، مثل أحمد موسى، مقدم برنامج “على مسئوليتي”، حتى إنه ذهب لأن يقول بأنه مستعد للذهاب بهذه “الوثائق” في نظره إلى محكمة العدل الدولية ليثبت أن الجزر سعودية!
https://www.youtube.com/watch?v=JOXLG6i63w4
بينما عرضت الإعلامية لميس الحديدي، هذه الوثائق “بشياكة” بعض الشيء، فنفس الخطابات التي وزعتها الحكومة على إعلامييها ليدافعوا عنها من خلالها، عرضها كل منهم على طريقته الخاصة، فالحديدي قامت بعمل مداخلات هاتفية مع بعض الشخصيات التي إما دافعت عن مصرية الجزر، أو من أقرت بسعوديتها، ثم خرجت لتقول إن “الحدود لا تُرسّم على السوشيال ميديا”، وكأنها لا تعلم أن المواطن – ومنذ فترة ليست بالقليلة -، الذي لا يملك حق وصلة النت، شعر بأنه “اضرب على قفاه”، من نظام ما كان ليصبر عليه، لولا أنه يحافظ على وحدة وسيادة الأرض المصرية.
ذر الرماد في عيون المواطن عن طريق الإعلام، لم يكن فقط بتبني قطاع كبير منه لهذه الأوراق التي وزعتها الحكومة عليهم وفقط، بل بأخذ المُشاهد في منطقة بعيدة عن صلب الموضوع، بحيلتين، الأولى إظهار أن سعودية الجزر مفروغ منه “بس المشكلة في الإخراج الوحش”، وأن العيب والسقطة هي في إدارة الأزمة، الأمر الثاني هو “اجعلهم يتجادلون فيسقط المبدأ”، حيث ترى لأول مرة يستشهد أحمد موسى بكتب الأستاذ هيكل، أو بالبرادعي، ليُصبح مبدأ مصرية الجزر أمر مشكوك في صحته، من قلب مُحبي هؤلاء.
نرشح لك – لميس الحديدي تعاتب السيسي على الانفراد بالسلطة
الثابت في هذا المشهد المخزي، أن هناك قطاعا كبيرا من الإعلام المصري لا يسعى لتوعية جمهور، بل لإقناعه برؤية معينة، تُرضي مصالحه ومصالح من يكفله، وأن النظام الذي لا يملك آلة إعلامية خاصة به، اعتمد في الترويج لسعودية تيران وصنافير، على هؤلاء الإعلاميين في محاولة لـ”تلصيم” صورته أمام المواطن، لكن بالرغم من ذلك سيظل النظام وإعلامه في السعودية، بينما الشعب في “تيران وصنافير”.
اقرأ أيضًا:
.