ياسر خليل
يكشف المؤتمر السنوي لمطوري فيسبوك (F8) عن قفزات نوعية مذهلة لموقع التواصل الاجتماعي العملاق. المتصدر للمشهد في هذه الوثبات هو التكنولوجيا المتطورة، والذكاء الاصطناعي، لكنها تتضمن في طياتها أيضا “قضمات” كبيرة سوف يقتطعها فيسبوك من مجالات مختلفة، على رأسها: الإعلام، والإعلان، والاتصالات، والأعمال.
باختصار، المؤتمر ينبئ عن تصورات طموحة لمارك زوكربيرج، مؤسس الموقع، للسيطرة على العالم السيبراني (الإنترنت) بقوة ناعمة.
هذا المقال لا يتبنى نظريات المؤامرة المستهلكة، ولكنه يحاول أن يصل إلى فهم للاتجاهات المستقبلة لشبكة التواصل المتوسعة، التي باتت تؤثر في حياة الأفراد، والمجتمعات، والدول، ومن ثم يلفت النظر لضرورة وضع تصورات لما يمكن أن يحدث مستقبلا، وكيف يمكن التعامل معه مقدما.
تذكر أن فيسبوك كانت أداة للتواصل بين بضعة أصدقاء يدرسون بجامعة هارفارد الأمريكية في فبراير 2004، وأصبحت في 2016 وجهة يقصدها يوميا أكثر من مليار مستخدم حول العالم.
أعلن زوكربرج في فبراير من العام الحالي أن الشبكة تهدف إلى أن يصل عدد مستخدميها إلى 5 مليار مستخدم (من 7 مليار نسمة في العالم) بحلول عام 2030. بدأ مؤسس فيسبوك تحركه مبكرا منذ العام الماضي ليصل إلى هدفه، من خلال إطلاق مشروعه لتوفير الاتصال المجاني بالإنترنت حول العالم من خلال مؤسسة Internet.org. الإنترنت يبث عبر طائرات تحلق لشهور في السماء، وقريبا سوف تطلق المؤسسة أقمارا صناعية.
لكن ما هي القفزات المثيرة للانتباه التي أعلن عنها في مؤتمر F8 الذي عقد في سان فرانسيسكو خلال 12-13 أبريل؟
أكثر ما لفت انتباهي كصحفي هو طريقة النشر الجديدة التي ستسمح لفيسبوك أن يجعل وسائل الإعلام، والصحفيين، يعملون لصالحه، وتحت مظلته (بأدواته) وهم سعداء، من خلال خدمة Instant Articles. هذه خدمة متطورة للغاية، تتيح منصة للنشر عبر موقع فيسبوك، وبشكل مستقل عن الموقع الخاص بالناشر (وسيلة الإعلام). الميزة التي توفرها هذه الخدمة هي سرعة تحميل المقالات على الهواتف الجوالة (87% من مستخدمي فيسبوك يزورونه عبر الموبايل).
تتيح Instant Articles أيضا مرونة في التصميم لتنسجم مع “شخصية” الناشر المميزة، فمثلا CNN أو National Geographic ستحتفظ بملامحها الخاصة وهي تقوم باستخدام المنصة المتطورة، التي تتضمن إمكانية إنشاء محتوى “الواقع الافتراضي”، وعرض الصور بجودة عالية مع إمكانية تكبيرها، وكذلك مقاطع الفيديو، والبث الحي للفيديو، كما توفر الخدمة إمكانية عرض الإعلانات، وتحصيل عائداتها لصالح الناشر.
الأمر لم يعد كما كان: نحن تعودنا أن ننتج المحتوى، ونبثه على الموقع الإخباري، ثم نقوم بنشر رابط له على فيسبوك لنجلب الزوار إلى موقعنا. الشبكة مصدر مهم لجلب الزوار، لكنه ليس الوحيد. إذا فعلت ذلك الآن، فسوف تبحث برمجيات فيسبوك على نسخة من المقال منشورة على Instant Articles فإذا وجدتها، سوف ترسل الزائرين إليها، وليس إلى موقعك.
قد تؤدي هذه الخدمة “المجانية”، المتطورة، إلى هجرات جماعية من المواقع الأصلية، إلى منصة فيسبوك. قد يحدث الشيء نفسه بالنسبة للمستخدمين الذين يتجهون لاستعمال الأجهزة المحمولة بشكل متزايد، ويرهقهم التحميل البطيء للمواقع التقليدية.
هذا ببساطة يضع سوق الإعلام في قبضة الشبكة الاجتماعية العملاقة، ولو بصورة تدريجية. وبالتبعية هناك سيطرة على سوق الإعلان، حيث تتوفر بدائل عديدة لظهور الإعلانات على طيف واسع من وسائل الإعلام، والصفحات، عبر شبكة فيسبوك الإعلانية.
نأتي إلى مجال الأعمال، حيث أعلن فيسبوك من خلال المؤتمر عن إضافات جديدة لبرنامج المحادثة الخاص به (Facebook Messenger)، والذي سوف يقدم للشركات إمكانية بناء خدمة للعملاء باستخدام الذكاء الاصطناعي، عبر Chatbots. يمكنك على سبيل المثال أن تحجز سيارة لنقلك من مكان إلى آخر، أو أن تطلب بيتزا عبر الماسنجر، ويكون على الجانب المقابل تطبيق ذكي مجهز لتلقي طلبك، والرد عليك.
هذا سيجذب ملايين الشركات والأفراد لتقديم خدماتهم عبر الماسنجر، خاصة مع توفر إمكانية نقل الأموال من شخص إلى آخر (payments peer-to-peer).
من المتوقع أن يؤثر ذلك على قطاع الاتصالات، حيث يمكن أن تستغني الشركات المقدمة لخدماتها عبر الماسنجر عن الأرقام القصيرة والمميزة المخصصة لخدمة العملاء، غالبا سوف يفضل الزبائن الاتصال المجاني عبر الماسنجر، ومن ثم لا حاجة لدفع اشتراكات لشركات الاتصالات مقابل خطوط مهجورة.
بالإضافة إلى برنامج المحادثة الصوتية والنصية Whatsapp الذي يوجد على مليار هاتف يعمل بنظام أندرويد، وتملكه شركة فيسبوك، والذي شهد تحسينات مؤخرا في تدابير حماية الخصوصية، وتشفير الرسائل، فإن تحسينات مماثلة تتم إضافتها إلى Facebook Messenger، وهو ما يجذب المزيد من الجمهور لاستخدامه كأداة مجانية للاتصال الصوتي، والنصي، عبر العالم، مع الشعور بـ”حماية” من اختراق الهاكرز للحياة الخاصة للأفراد. إنه مجاني، على خلاف شبكات الاتصال التقليدية.
محركات البحث من أكثر المواقع استخداما في العالم. على سبيل المثال، تجرى 250 مليون عملية بحث كل يوم على جوجل. فيسبوك يقتحم هذا المجال بذكاء، ويتجاوز المحرك الضخم بفارق كبير، حيث بلغ عدد عمليات البحث عليه 1.5 مليار عملية يوميا، على الرغم من أنه لا يذهب لمواقع الشبكة العنكبوتية مثل جوجل لفهرستها والحصول على المحتوى. المواقع والأفراد يأتون إلى فيسبوك ويضعون ما لديهم من محتوى، وفي المستقبل القريب ستتحسن جودة ذلك المحتوى.
عمليات البحث تحدد اهتمامات المستخدمين، وبالتالي تحسن ما يظهر لهم من نتائج بحث مستقبلا، وكذلك ما يعرض من إعلانات. على سبيل المثال، بحثت على فيسبوك عن زيت الأرجان الذي أعجبت به زوجتي حين اشتريته لها من تونس، فأظهر الموقع لي إعلانات لشركات تبيعه في مصر، على مدار أسبوع كامل، وبإلحاح مستمر.
إذن، نحن أمام شركة، وشاب طموح، يحتل مساحة كبيرة في عالم افتراضي ينتقل إليه سكان الأرض بشكل متزايد، ويقضون فيه وقتا أكبر. الآن يبدأ زوكربيرج في قفزة مذهلة للسيطرة الناعمة على هذا العالم الجديد.
مع الوضع في الاعتبار ما كشف من معلومات عن دراسة (تمت بسرية لمدة أسبوع) لردود فعل 700 ألف من مستخدمي فيسبوك في عام 2012، فإننا أمام كيان، يعرف عنا، وعن أقربائنا، وأصدقائنا، أكثر مما نعرف نحن. إنه يستخدم علوم النفس لفهمنا، وللتحكم في سلوكنا.
وإلى جانب ما لديه من مصادر المعرفة المعمقة عن كل شخص في العالم، يسعى زوكربيرج الآن للسيطرة على حصة حاكمة من موازين القوة التقنية، والإعلامية، والاقتصادية. هناك احتمال بأن تتهاوى، أو تضعف الكثير من الشركات داخل وخارج أمريكا، وربما تسقط قطاعات كاملة أو تتضرر تضررا كبيرا نتيجة قفزات هذا العملاق الرقمي.
تصور شركة تقدم خدمات مجانية لـ5 مليار إنسان، يجرون اتصالاتهم، ويمارسون أعمالهم، وينشرون صورهم، ومشاعرهم، ويتابعون الأخبار، ويتسلون بالألعاب ومقاطع الفيديو… باختصار يفعلون كل شيء تقريبا على هذه الشبكة. دون شك إن مجلس إدارة هذه الشركة، هو مجلس إدارة هذا العالم الافتراضي، بقرار واحد سوف يغيرون الكثير في حياة أفراد، ومجتمعات، ودول بأكملها.
ما يفعله زوكربيرج يبدو رائعا من زاوية، ولكنه في ذات الوقت، هو نفس ما نرفضه في السياسة، إنه يجمع خيوط السلطة (على العالم الافتراضي) في يده، هناك حاجة للانتباه جيدا لذلك، ولو وضع تصورات لتلك المرحلة التي ربما تتحقق قبل 2030.
.