قد يكون مكررا أن أعيد عليكم ما قاله الرئيس عبد الفتاح السيسي فى لقاءه بممثلى فئات المجتمع صباح الأربعاء الماضى، فخلال الساعات الماضية كان ما قاله هو الشغل الشاغل للجميع، الذى يعدون عليه أنفاسه ويتصيدون له كلمة من هنا وكلمة من هناك للسخرية مما يقوله والانتقاص منه، والذين كانوا ينتظرون كلامه حتى يطمئنوا، لأنه بالنسبة لهم لا يزال الأمل الذى يعقدون عليه أحلامهم فى مستقبل أفضل.
لكن المفاجأة أن الاهتمام بما قاله الرئيس تركز على أقل من ٥ بالمائة فقط مما قاله، وهو ما يعنى أن هناك من يتربص به، وهو ما حدث فى كلمته : لم أعط الأذن لأحد بالكلام.
أخذ المتربصون بالرئيس هذه الكلام وصنعوا من حبته قبة، فلأنه قال ذلك فهو بالنسبة لهم ديكتاتور لا يسمح لأحد بالكلام فى حضوره، يمنح نفسه حق الكلام ويححبه عن الذين ذهبوا ليحاوروه، فإذا بهم يفاجئون به متحدثا واحدا ووحيدا.
وهنا لابد أن نتوقف قليلا، ونسأل عن السياق الذى قال فيه الرئيس هذه الكلمة، كان النائب محمد كلوب صاحب واقعة الحمام والذى حضر اللقاء بوصفه رئيس الهيئة البرلمانية لحزب حراس الثورة ( هو النائب الوحيد للحزب فى البرلمان) بعد عودته من الحمام يريد أن يتحدث، طلب منه الرئيس أن ينتظر قليلا، لكنه بدأ الكلام ربما مدفوعا بحماس وجوده فى حضرة الرئيس، فى نفس اللحظة بدأ مشارك آخر فى الكلام، وسأل الرئيس عن نصيب المهندسين فى مشروع المليون ونصف مليون فدان، فأراد الرئيس أن ينهى هذا الهرج، وقال أنه لم يمنح أحدا الإذن بالكلام.
لم يقصد السيسي إذن أن يصمت الجميع ليتحدث هو، كان قد انتهى من الكلام بالفعل، وكان مهما أن يرسخ تقليدا مهما وهو أن يكون هناك نظام فى حضرته، فليس معقولا أن يشهد لقاء مع الرئيس هذه الهرجلة والعشوائية، قال أنه لا يرغب فى مزيد من هذه اللقاءات لأنها تتحول إلى مكالمة، فالبعض يريد أن يتحدث أمام الرئيس والسلام، حتى لو كان الكلام بلا فائدة، ولا مقصد الا الكلام ذاته.
الرئيس بعد أن انتهى من الغداء الذى دعا اليه الحاضرين تكلم لمدة لا تزيد على دقيقتين، قال أنه مستعد أن يتكرر لقاءه مع فئات المجتمع المختلفة مرة أو مرتين كل شهر، فهو يريد أن يتحدث الى الناس ويستمع منهم، وأخبر الحاضرين بأنه ومنذ تولى المسئولية شعر بالعذاب الشديد، ولا يتمنى لأحد أن يعانى من هذا العذاب، وهو ما يعنى أنه لا يصادر على احد كلامه، لكن الكلام لابد أن يكون بنظام، ويكون له هدف، فليس معقولا أن يكون الكلام هدفا فى حد ذاته.
لقد عاب البعض على الحاضرين للجلسة أنهم لم يتحدثوا، اكتفوا بالاستماع للرئيس والتصفيق له، وأخذوا مما حدث دليلا على رغبة الرئيس فى الاستبداد برأيه واعتزازه بما يقوله وحده، وهو ما لم يكن صحيحا، وهنا لابد من توضيح حقيقة ما جرى فى قاعة قصر الاتحادية.
دخل الرئيس القاعة الساعة الحادية عشر، لكن قبل ما يقرب من ساعة وعشرين دقيقة، كانت هناك جلسة مفتوحة للنقاش، تحدث فيها المهندس شريف اسماعيل رئيس الوزراء، وسامح شكرى وزير الخارجية، والدكتور مفيد شهاب أستاذ القانون الدولى، ومحمد فايق رئيس المجلس القومى لحقوق الانسان، واللواء محسن حمدى رئيس لجنة الإشراف على الانسحاب الاسرائيلى من سيناء والخبير الدولى فى ترسيم الحدود البحرية.
كانت هذه الجلسة فنية بالمقام الأول، تناول المتحدثون فيها الجوانب الفنية والقانونية والسياسية لمسألة ترسيم الحدود بين مصر والمملكة العربية السعودية، ودار نقاش حول ما قالوه، بدأه النائب محمد أنور السادات الذى اقترح أن يرفض مجلس النواب الاتفاقية حتى يهدأ الرأى العام، وهو ما رد عليه الدكتور مفيد شهاب، بأن مجلس النواب حر فى قراره، يرفض أو يوافق فهذا شأنه، لا يستطيع أحد أن يفرض عليه شيئا بشكل مسبق، وتحدث حافظ أبو سعدة والنائبة نشوى الديب، مطالبين أن تذهب مص بملف الجزيرتين الى التحكيم الدولى، فرد شهاب بأن التحكيم يكون فى حالة النزاع، وهو ليس موجودا فى هذا الملف من الأساس.
كانت هناك نقطة مهمة أخرى، أثارها أحد الموجودين، عندما سأل مفيد شهاب عن وجود بعض الخرائط التى تظهر فيها تيران وصنافير ضمن الحدود البحرية المصرية، فرد مفيد بأن هذا الأمر لا يعتبر حجة يستند اليها، لان هناك خرائط كثيرة ليست صحيحة، وضرب مثلا بأنه أثناء إجراءات التحكيم فى قضية طابا، قدمت اسرائيل خريطة صادرة عن مصلحة المساحة المصرية، تشير الى أن طابا واقعة فى حدود فلسطين، وتم إثبات أنها ليست صحيحة، حيث كانت هناك خرائط أخرى تؤكد وجودها داخل الحدود المصرية.
كان المقصود إذن أن يكون الحوار والنقاش والجدل والأسئلة الفنية حول موضوع الجزيرتين فى الجلسة الأولى التى تواجد فيها متخصصون، على أن يكون حديث الرئيس منصبا على الناحية السياسية، وتوضيح وجهة نظره فى الملف، وهو ما كان يريد كثيرون أن يسمعوه من السيسي شخصيا، وهو ما فعله، بصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معه، ولم يكن مطروحا أن يكون هناك حوار مع الرئيس، وعليه فالحديث عن أنه لا يريد أن يسمع الا صوته، ليس الا مزايدة عليه لا محل لها من الإعراب.
فى حديث الرئيس تبلور أن هناك منطق يحكم النظام السياسي المصرى فى عمله وقراراته، ويمكن أن نرصد ذلك فى الآتى:
أولا: أجاب الرئيس على تساؤل الرأى العام عن سبب اخفاء المفاوضات كل هذه الشهور، وهو الأمر الذى كان مزعجا لكثيرين، فليس معقولا أن تتم مفاجأة الناس بأمر يتعلق بما استقروا عليه سنين طويلة بأنه حقهم وأرضهم، لكن الرئيس لديه وجهة نظر بأن لم يعلن التفاوض حفاظا على الاستقرار، من وجهة نظره أن اعلان الأمر كان من شأنه أن يحدث نوعا من التراشق بين الشعبين المصرى السعودى، وهو ما لا يريده ولا يحبذه.
ثانيا: أشار الرئيس أيضاً الى الاعتراض على التوقيت الذى أعلنت فيه الاتفاقية، فلم يكن من اللائق أن يعلن عنها والملك السعودى موجود يتحدث عن استثمارات بالمليارات، فقد فهم البعض أنه جاء ليدفع ثمن الجزيرتين، قال الرئيس أن لديه ضيفا كبيرا، وهناك اتفاقيات مهمة، واستقر الرأى على أن يتم توقيع هذه الاتفاقية الكبيرة أثناء الزيارة، لأنه أيضاً لديه شعب يتحدث معه، ويريد أن يقول له أنه أعاد له حقه، كما يبحث الشعب المصرى عنه حقه.
ثالثا: تفهم الرئيس وبشكل كامل حالة الغضب التى اجتاحت قطاعات عديدة وعريضة من الشعب المصرى، احتجاجا على ما سمى تنازلت عن الأرض المصرية، بل أشاد بذلك، واعتبره حالة صحية، فالمصريون يهتمون بأرضهم ويخافون عليها، ولا يريدون من أحد أن يفرط فيها، لكنه فى نفس الوقت رفض التشكيك فى ولاءه ووطنيته، فهو لم يخن الناس قبل ذلك حتى يخونهم الآن.
رابعا: وضع الرئيس الأمور فى نصابها تماما، عندما تحدث عن موقعية الجيش فى الحياة السياسية المصرية، فهو جيش مصر وليس جيش أحد، وفى الوقت الذى سيرى الجيش أن الشعب غير راضٍ عن الرئيس، فسوف يتحرك، مهما كان من يحكم، فالشعب هو السيد، ولا إرادة تعلو على إرادته.
ماذا يعنى ذلك كله؟
يعنى ببساطة أننا لسنا أمام نظام عشوائى، الواقع يقول أننا أمام نظام لديه وجهة نظر واضحة ومحددة بالنسبة له على الأقل، وهى وجهة نظر يراها منطقية وواقعية، حتى لو لم يقتنع بها الآخرون، وبدا أن الرئيس يعتقد إنه بمجرد الإعلان عن وجهة نظره فلابد أن يقتنع بها الموجودون، لا يحتاج الى أن يتحاور حولها، فطالما إنها واضحة كل هذا الوضوح، فلماذا ندخل فى جدل فى الغالب سيكون عقيما وبلا قيمة.
وهنا تأتى المشكلة الأكبر فيما أعتقد، لقد قلت مبكرا أن الرئيس السيسى أراد أن يعيد من اليوم الأول لظهوره السياسي نموذج الرئيس الأب، وهى صيغة تعكسها طريقة حديثه العاطفية فى الحديث الى المصريين، وقد نجحت هذه الصيغة معه كثيراً، ما يجب أن يدركه الرئيس ان صيغة الرئيس الأب انتهت فى مصر تماما، عندما خرج المصريون فى أقل من عامين ليسقطوا رأس السلطة.
كان واضحا تفاعل هذا النموذج تماما داخل الرئيس، عندما ختم حديثه عن مسألة الجزيرتين بقوله: خلاص مش عاوز اسمع كلام فى الموضوع ده تانى، يعتقد هو أنه على حق تماما فى كلامه هذا، فهو أب، وما دام الأب قال كلمته، فلا كلام بعده، وهو ما جانبه الصواب فيه، فالشعب فعليا لا يتعامل بمنطق الأب والابن، والدليل على ذلك أن الموضوع لا يزال مفتوحا، ولن يمتنع الناس عن الحوار والجدال حوله… لم يكن الرئيس حاكما مستبدا فيما قاله، ولم يكن طاغية يفرض على الشعب عدم الحديث فى موضوع بعينه، لكنه كان أقرب الى رجاء الأب، لكن الأزمة التى لم ينتبه لها هى أن الرئيس كأب لم يعد موجودا فى الوجدان المصرى من الأساس.
وكما انهارت نظرية الرئيس الأب تماما، انهارت نظرية أخرى تحدث عنها الرئيس، وهى نسق الفرد ونسق الدولة، قال أن الفرد بطبيعته يريد أن يعرف كل شئ، وفى الوقت الذى يريده، لكن الدولة لديها حسابات أخرى، لا يمكنها ان تعلن عن كل شئ تقوم به، لأن هناك أمور تتعلق بالأمن القومى، وعليه فالأولى أن يتلقى الفرد ما تعلن عنه الدولة، لان الدولة فى الغالب تعرف أكثر.
هذه النظرية انهارت تماما، لأن الفرد الذى يتحدث عنه الرئيس، لم يعد هو الفرد الموجود فعلا على الارض، كان الفرد فيما سبق لا تتاح له فرصة أن يعرف ما يدور حوله بشكل كامل، ولذلك كان ينتظر الدولة أن تقول له، إن تفصح عما لديها، ولم يكن التوقيت يفرق معه كثيرا، فالدولة هى التى تعرف، وهو ما كان يجعله يستسلم لها تماما، أما الآن فالفرد الذى يتحدث عنه الرئيس يعرف أكثر، لديه وسائل عديدة يحصل منها على المعلومات، تصله فى الوقت نفسه الذى تصل الى الدولة، وعليه يجب على الدولة أن تضع أمامه المعلومات فى الوقت المناسب، وإلا فلن يكون لها أى قيمة من أى نوع، بل على العكس تماما، يمكن ان يكون لها أثر سلبى، وهو ما حدث فى مسألة الجزيرتين، فقد شعر الفرد الذى يتحدث عنه الرئيس أنه ليس عنصرا مهما فى المعادلة، وعليه أن يقتنع بما يقال له، لا لشئ الا لأن الدولة هى التى قالت.
نقطة أخرى أعتقد أنها تستدعى مزيدا من التقاطع والاشتباك، فعندما تحدث الرئيس عن شبكات التواصل الاجتماعى أشار الى أنها مصدر مؤشرات، ولا يجب أن تكون مصدر معلومات، وهو محق تماما فى ذلك ولا يمكن لأحد أن يعارضه هنا، لكن ما يجب أن نقوله، هو أن الصحفيين الذين يطالبهم الرئيس بمزيد من الدراسة والبحث لموضوعاتهم بل النشر لا ينطقون عن الهوى، ولا يأتيهم الوحى، بل يتعاملون مع مصادر، وعندما تضيق القنوات التى تنقل لهم المعلومات يبحثون عنها فى كل مكان، والمطلوب أن يكون إيقاع مؤسسات الدولة فى مد الصحفيين بالمعلومات أسرع من إيقاع شبكات التواصل الاجتماعى، فبغير هذا لا يمكن حصار هذا الوحش الذى أصبح مصدرا للتخريب أكثر من كونه مصدرا للمعلومات والحوار والنقاش حول ما يدور فى المجتمع.
لقد كان ما فعلته شبكات التواصل الاجتماعى مع خطاب الرئيس ترجمة حرفية لما أقول، لم تهتم بما قاله عن قضية ريجينى، ولا عن المشروعات التى أنجزتها الحكومة، ولا عن انتخابات المحليات التى طالب الشباب أن يكون لهم دور فيها، ولا عن الحريات وحقوق الانسان، ولا عن زيارة الرئيس الفرنسي والوفد المرافق له، ولا عن المشروعات التى سيقوم بافتتاحها فى ٢٥ ابريل القادم، ولا عن مجهود ٢٢ شهر التى تم فيها إنجاز ما لا يمكن إنجازه فى ٢٠ سنة، وانصب الاهتمام كله على ما يقوله الرئيس، وتم هذا بترصد واضح.
لقد نجح الرئيس الى حد كبير فى احتواء جزء لا بأس به من الغضب فى الشارع المصرى، كان الخطاب فيما أعتقد للاحتواء بالأساس، لكنه احتوى أزمة واحدة، والمطلوب منه أن يحتوى حالة كاملة بدأت تتشكل فى المجتمع المصرى، الذى يعارض قبل أن يفهم، يتمسك برأيه ووجهة نظره، دون أن يكون لديه استعداد للتراجع، وأعتقد أن هذه هى المشكلة الكبرى التى يواجهها الرئيس… ونواجهها معه أيضا.
.