كان الرئيس عبد الفتاح السيسي صادقا تماما عندما قال للشباب الذين صاحبهم معه الى جبل الجلالة صباح الجمعة ١٥ ابريل، عندما قال أنه لا يخشى من الخارج، ولكن قلقه كله من المخطط الجهنمى الداخلى، الخارج مقدور عليه، لغة المصالح هى التى تحكم وتتحكم، وحتى لو وصلت الخلافات بين النظام المصرى وأى دولة فى العالم إلى منطقة الخطر، فإنها تظل تحت السيطرة، لأن السياسة الخارجية لا تعرف العواطف، تدرك فقط ان الفائدة المتبادلة هى سيدة الموقف، ومصر رغم ما تعانيه، الا أنها يمكن أن تقدم الكثير للعالم.
يبقى الخوف من الداخل، وهو فيما أعتقد ليس بسبب المظاهرات التى خرجت رافضة ومنددة بإتفاقية ترسيم الحدود بين مصر والمملكة العربية السعودية، فهى من زاوية خاصة دليل على حيوية شعب له وجهة نظر فيما يخص أرضه التى لا يجب أن يتنازل عنها أحد، أو على الأقل لو ثبت أنها ليست أرضه، فكان يجب أن يوضع فى الصورة من البداية، لا أن يتم التعامل معه على أنه رقم تافه فى المعادلة، سيتعاطى مع ما يقال له ويقبله دون مناقشة أو سؤال.
قد تختلف مع منطق المظاهرات التى لابد أن تكون أقلقت النظام، ووضعته أمام حقيقة أن الأوضاع على الأرض تغيرت، فالذين نزلوا من حقهم أن يتكتلوا لرفض الاتفاقية كلية، أو يطالبوا بالشفافية فيما هو قادم بها وفيها، لكن أن تتحول إلى مطالبات برحيل النظام، فإننا بذلك تخطو بسرعة نحو الانتحار القومى، وهو التعبير الذى استخدمه الرئيس أكثر من مرة، ليس خوفا على نفسه، فيما أعتقد، ولكن لأنه يعرف أن تقويض تجربة ٣٠ يونيو، لن يصيبه هو فقط، ولكن سيلحق الضرر بالجميع، لو حدث وأصبح الرئيس فى خانة إليك، فإنه يعرف مصيره جيدا، لكن الشارع أيضاً سيكون فى ورطة شديدة، وأعتقد أننا لن نتحمل بدايات جديدة ونقاشات جديدة وانقسامات جديدة، فالبلد بالكاد يقف على قدميه، وأى هزة ولو خفيفة ستضعنا جميعا أمام وضع مأساوي، لن نقدر عليه.
بعد ٣٠ يونيو كانت الصورة واضحة، شعب وجيش وشرطة ومؤسسات واعلام يقف على شاطئ، وجماعة تقف على الشاطئ الآخر مع أنصارها وحلفاءها، وقوى الخارج التى تساندها وتعضد موقفها، وتسعى جاهدة الى كسر إرادة الشعب الحرة لإعادة عجلة الزمن الى الوراء.
المعركة كانت محددة الملامح والأبعاد، لا مكان فيها للخلط، ولا مساحة للغموض والريبة، وأصبح الانقسام واضحا، فإما أن تكون مع الدولة المصرية، وإما أن تكون مع خصومها.
كانت كتلة ٣٠ يونيو صلبة ومتماسكة ومتجهة الى بناء الدولة واضعة ثقتها فى القائد الذى بدا من اللحظة الأولى أنه يقف الى جوار الشعب، مخاطرا ليس بمستقبله المهنى فقط، ولكن بحياته أيضاً.
على هامش الممارسة السياسية بدأت كتلة ٣٠ يونيو فى التفكك، فى البداية كان التفكك محتملا، خلافات بين الرموز، معارك صغيرة بين شركاء المعركة، سرعان ما كانت تذوب، ويتم استيعابها تحت إلحاح أن الرهان الوحيد على هزيمة ٣٠ يونيو يأتى من تفتيت من قاموا بها.
صحيح ان هناك فئات كثيرة بدأت تتفلت من معسكر ٣٠ يونيو، لأنها رأت أن بقاءها فيه لا يحقق مصالحها، أو على الأقل لا يتفق مع وجهة نظرها، لكنه كان تفلتا يمكن السيطرة عليه، لم يكن مقلقا ولا مزعجا ولا يشكل خطرا من أى نوع.
ظلت الصورة بتفاصيلها تلك حتى حدث زلزال اتفاقية ترسيم الحدود بين مصر والمملكة العربية السعودية، وما أعقبه من توابع الغضب احتجاجا على إرجاع جزيرتي تيران وصنافير الى السعودية، وهو ما اعتبرته فئات عديدة من الشعب تفريطا واضحا فى الأرض، ورغم أن الرئيس خرج ليوضح وجهة نظره، الا أن محاولة احتواءه للموقف لم تؤتى ثمارها بشكل كاف، وهو ما يدخلنا الى مساحة الأزمة الحقيقية التى تشكل خطرا لا يجب أن نقلل منه أو نتهاون فى التعامل معه.
إذا كانت هناك مؤامرة حقيقية فى الداخل، فهى تلك المؤامرة التى تريد أن تحدث شرخا فى معسكر ٣٠ يونيو، تجعل الرأى مختلفا حول الرئيس، وهو خلاف ليس فى وجهات النظر فقط، ولكنه خلاف حول بقاءه فى السلطة من الأساس، الذين خرجوا مطالبين برحيله، حفزوا فئات أخرى الى تجهيز فعالية ليطالبوا فيها بتفويض جديد للرئيس عبد الفتاح السيسي.
الميادين الغاضبة لم تكن أبدا خطرا على مصر، ولا على الجالس فوق قمة السلطة، لكن الخطر يأتى من انقسام الميادين حوله، وهو ما يبدو أننا مقبلين عليه بقوة خلال الفترة القادمة، ولو لم ننتبه له، سنجد أنفسنا وجها لوجه أمام فخ لن ينتهى حتى يبتلعنا جميعا.
هناك ما هو أخطر بالفعل، ولا أريد أن يعتبرنى أحد مبالغا فيما أقوله، إننى أخشى على مصر الآن من استحضار الحالة الثورية المتعاقبة، فقبل أن ينصرف المتظاهرين من الشوارع يوم الجمعة، أعلنوا أنهم سوف يعودون مرة أخرى الى الشارع يوم ٢٥ ابريل، اختاروا يوما له دلالة، وهو ما قد يكون مهما بالنسبة لهم، فقد تحررت فيه سيناء كاملة، وهم يخرجون فيه للاحتجاج على التنازل عن الأرض من وجهة نظرهم، لكن ما يشغلنى أن تتابع أيام التظاهر والاعداد لها والحشد من أجلها، هو الخطر الكامل على الجميع، النظام ومن يعارضونه فى الوقت نفسه.
ثنائية الحشد والحشد المضاد، هى من أسقطت نظام مبارك، ومن بعده نظام محمد مرسى، فقد كتب مبارك شهادة وفاته يوم حشد لموقعة الجمل واستغلها الاخوان ضده، وكتب مرسى الشهادة ذاتها لنفسه يوم الحشد الإخوانى أمام الاتحادية وتم استغلاله ضده بنفس الصورة، فإنقسام الشعب يطيح فى النهاية برأس السلطة، وهى تجربة ماثلة أمامنا لم يبرد دمها بعد، وليس من الحكمة أن نعيشها مرة أخرى، لأنها ليست فى مصلحة أحد على الإطلاق.
لقد عاب البعض على الرئيس عبد الفتاح السيسى زيارته إلى جبل الجلالة فى نفس اليوم الذى خرجت فيه المظاهرات تندد باتفاقية ترسيم الحدود، رأى هؤلاء أنه كان يجب أن يؤجل الزيارة، لأنه من وجهة نظره ساهم فى تقديم صورتين متناقضتين لمصر فى نفس اللحظة، صورته وهو يقف بين شباب يحثهم على العمل ويقدم لهم ما أنجزه، يحذرهم من المؤامرة على مصر ويعيب على الاعلام أنه لا ينقل إنجازاته، ويضع الخطر الذى يراه رأى العين أمامهم، ثم صورة لشباب غاضب لا يشغله ما يقوله الرئيس، ولا يفكر فيه ولا يتجاوب معه.
أقدر طبعا أن الرئيس وهو فى جبل الجلالة كان خاضعا لبرنامج رئاسى معد سلفا، فزيارة جبل الجلالة لم تكن أبدا لصرف النظر عن المظاهرات، أعتقد أن النظام لا يفكر بهذه الطريقة، ثم أن الزيارة كانت مهمة، حاول من خلالها أن يحارب الإحباط، ويقدم صورة لمصر التى يعمل على بناءها بالانجاز وليس بالهتاف، فى رد عملى على الغاضبين، لكنه دون أن يعلم وضع أول صورتين متناقضتين فى مواجهة بعضهما البعض، وهى لحظة يجب عليه قبل غيره أن يتداركها.
أعترف بالطبع أن لدينا أزمة فى التواصل، تحكمنا فى مصر الآن حالة مذهلة من سوء الفهم والتفاهم، لا أحد يريد أن يسمع الأخر، وكل طرف يعتقد أنه يملك الصواب المطلق، ولا يريد أن يتنازل عنه، وهنا تأتى مسئولية النظام، فعليه يقع العبء الأكبر فى استيعاب معارضيه ومخالفيه ومنتقديه، ليس من مصلحة نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي الذى لا أشك أبدا فى وطنيته وإخلاصه وعمله المتواصل من أجل مصر أن يصنع له خصوما جددا على يديه، خاصة أن هؤلاء الخصوم خرجوا من معسكر مؤيديه، الذين نصروه وناصروه ووقفوا الى جواره فى معركته ضد الإرهاب، وهى المعركة التى لم تنته بعد.
إننى أخشى على مصر من حالة التخوين التى يبدو أنها ستسود فى المرحلة القادمة، شكا الرئيس نفسه من التشكيك فيه وفى مؤسسات الدولة المختلفة، تساءل فى حيرة خلال لقاءه بممثلى فئات المجتمع المختلفة عن دوافع من يفعلون ذلك، فليس معقولا أنه لا يوجد وطنيون فى مؤسسات الدولة المختلفة، ولديه كل الحق فيما قاله، لكنه يجب أن يستوعب أيضاً أن المختلفين معه أو الناقدين لبعض قراراته يعز عليهم تخوينهم وإخراجهم من صفوف الوطنيين، لمجرد أن لهم وجهة نظر مختلفة.
من يخططون الآن الى ازالة النظام، يعملون بكفاءة عالية ليكون الكل ضد الكل، يهمهم ان نرفع فى وجوه بعضنا البعض لافتات التخوين والعمالة، فيستحيل التفاهم فيما بيننا، وهى المرحلة التى لو وصلنا اليها، فلا تسألوا عن وطن ولا أمن ولا أمان، فعندما يصبح الكل ضد الكل، تبدأ الدولة فى التفكك، وهو ما يريدونه بنا ولنا تماما، فهل نستجيب لهذه الرغبة الشريرة، أم نفوت على خصوم الوطن ما يضمرونه لنا.
أعرف أن نظام الرئيس عبد الفتاح السيسى يريد أن يبنى هذا الوطن، يعمل مواصلا الليل بالنهار من أجل الحفاظ على هذه الدولة التى يريد كثيرون بها شرا، لكنه لن يستطيع أبدا أن يبنى بمفرده، ولن يتمكن من إنجاز ما يخطط له، بفئات بعينها دون فئات أخرى، الجميع لابد ان يقف فى صف واحد، صورة الشعبين المتناحرين لن تصب فى مصلحتنا أبدا.
لابد أن يقطع النظام الطريق الآن على نمو الحالة الثائرة الغاضبة، فهناك من بين الشباب من يحن وبشدة الى هذه الحالة، فهى تمكنهم من تحقيق أنفسهم، يشعرون أنهم يفعلون شيئا له قيمة من وجهة نظرهم على الأقل، وهناك من لا يفعل شيئا حقيقيا فى حياته، شباب ضائع ومغيب، هؤلاء سيكون مفيدا لهم أن ينضموا الى كتائب الغضب، معتقدين أنهم بذلك سيكون لهم دور فى صياغة التاريخ من جديد، وهناك من يحمل وجهة نظر ولا يجد أحدا يستمع منه، فيخرج الى الشارع ليصرخ ويعلن موقفه، وساعتها لن يبقى ولن يذر، ينتظر هؤلاء جميعا أصحاب الأجندات الخاصة والمصالح الشخصية لتنظيم الصفوف فى مواجهة مع النظام، لن تكون فى صالح أحد.
على النظام أن يعمل بجدية على حماية هذا الوطن _ لا أشكك فيه أبدا، لكن من وأجلى ان أضع أمامه الصورة التى أعرف أنه لا ينكرها وإن كان يتعجب منها _ ، إننا نقدر كل جهود البناء التى يقوم بها، وكل الإنجازات التى يحققها على الأرض، وكل المشروعات التى أنجزها والتى وعد بإنجازها،لكن ما قيمة هذا كله والبيت نفسه لا يقوم على قواعد التفاهم والتصالح والتواصل.
إننى أحذر قبل أن تقع الكارثة… احذر من الفخ الذى سيبتعلنا جميعا… اللهم قد بلغت… اللهم فاشهد.
.