“صناعةُ المستقبلِ هي عمل مشترك، هي عقد بين الحاكم وبين شعبه”، “أنا لا أُقدم المعجزاتِ، بل أقدم العمل الشاقَ والجهد وإنكار الذات بلا حدود، وأعلموا أنه إذا ما أتيح لي شرف القيادةِ، فإنني أعدكم بأن نستطيع معا، شعبا وقيادة”..هذه مقتطفات من خطاب إعلان ترشح المشير عبد الفتاح السيسى للرئاسة.
هكذا انتخبت السيسي رئيسا للجمهورية، بناء على عقد شراكة مع الشعب، قوامه “معا”، لكن الشراكة لا تتم دون شفافية ومصارحة، فلا يمكن أن يختص فيها طرف لنفسه بصلاحيات دون اعتبار للآخر تحت أي مبرر أو دعوى، حتى لو بداعي حمايته والخوف عليه، طالما أن هذا الأمر لا يتعلق بمعلومات سرية أو تمس الأمن القومي.
في لقائه مع عدد من “فئات المجتمع”، الأربعاء الماضي، برر الرئيس عدم الإعلان عن اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع السعودية، والمتعلقة بجزيرتي تيران وصنافير، بأنه فعل ذلك تقديرا لعدم إيذاء الرأي العام، إلا أن هذا الأذى وقع فعليا، بإخفاء المعلومات عن الشعب، فالرئيس فرض وصايته على الرأي العام لعدم إيذاء المواطنين، إلا أنه آذاه بذلك أكثر.
“ساعدوني، مش هاقدر أعمل حاجة لوحدي”.. كرر الرئيس هذه الجملة كثيرا، ففي كل مرة كان يخرج فيها بخطاباته الصريحة، كان يلقى أمام المواطن أحمالا ثقيلة، مشكلات في الصحة، والتعليم، الكهرباء، والمياه، والصرف الصحي، وأرقام “متلتلة” عن مشاكل تئن بها البلد،فلماذا يطلب الرئيس شراكة في أشياء، بينما يفرض وصاية على أخرى؟.
على الرئيس أن يحدد موقفه بوضوح الآن: هل العلاقة بين الحاكم والشعب شراكة أم وصاية يا سيادة الرئيس؟، وهل الشعب على مستوى تحمل المسئولية والأعباء، أم أنه ضعيف نفسيا، وغير قادر على تحمل صعوبة الحقائق؟، وإذا كان اختيار هو الأخير، فأن عليه إذن أن يتوقف عن استعراض المشكلات.
هل يستطيع الرأي العام أن يتحمل الاطلاع على التفاصيل الخاصة بعجز الموازنة، وأن يتجرع الدواء المر من فاتورة تخفيض الدعم، ونار ارتفاع الأسعار، بينما لا يستطيع تحمل الاطلاع على تفاصيل التفاوض على ترسيم حدود ترابه الوطني؟، تبدو المفارقة هنا واضحة، فنحن إما شركاء على جميع المستويات، أو لسنا شركاء على الإطلاق.
“متسمعوش كلام حد غيري”، و”مش عاوز حد يتكلم فى الموضوع ده تانى”.. بدا واضحا من الجملتين اللتين جاءتا على لسان الرئيس، أنه يتعامل مع الشعب بنفسية الأب، وهنا أنا لا أتربص بالرئيس، كما أنني لست من هواة تفسير الجمل بعيدا عن سياقها، كما أنني على قناعة بأن الرجل لا يمتلك نفسية ديكتاتور، فهو يقول الكلمات من باب الضيق بـ”سفسطة” البعض، أو بقناعة رب أسرة أنه يعرف وحده المصلحة، ويعرف كل شاردة وواردة.
قد يكون قطاع من الشعب يتعامل مع الرئيس بنفس المنطق الأبوي الذى يتحدث به في خطاباته، لكنه ليس قطاعا كبيرا، فالسيسي نفسه يدرك أن الشعب ليس كتلة واحدة، كما أن الشعب نفسه شب عن الطوق بعد ثورتين متتاليتين، ولم يعد يعترف بتلك السلطة الأبوية، لا للرئيس ولا الحكومة.
وحتى سلطات الأب ليست مطلقة على أولاده يا سيدى الرئيس، فلا يستطيع الأب أن يزوج احد أبنائه دون الرجوع إليه، شرعا ومجتمعيا، كما أن المرحلة الحالية لا تحتمل إنهاء المشكلات بطريقة “أن عارف بعمل ايه..اقفلوا الموضوع ده”.
” سألت كل الناس، المخابرات، والخارجية، وأكدوا لي أن الجزيرتين سعوديتين”،اطلع الرئيس على الوثائق، وناقش الخبراء، وعقد اجتماعات مع وزير الدفاع ورئيس المخابرات العامة، والمفاوضين من الجانب السعودي، ثم استقر في يقينه بما لا يدع مجالا للشك أن الجزيرتين سعوديتين، فوقع الاتفاقية بضمير مستريح.. تلك قناعة الرئيس ويقينه، لكن اليقين لا ينتقل إلى الشعب بالإيحاء، فما خرج إلى النور بشكل رسمي، سواء من مجلس الوزراء أو وزارة الخارجية، لا يمكن أن يرقى بأي شكل من الأشكال إلى درجة الوثائق، فهي مجموعة مخاطبات بين دبلوماسيين، وربما تكون هناك وثائق قاطعة وأكثر أهمية بحوزة الدولة المصرية، لإثبات ملكية الجزيرتين للسعودية، وفي هذه الحالة عليها أن تعرضها على الرأي العام لإراحة الجميع، لأن ما ظهر لم يكن كافيا.
“أنا رجل شريف”، قالها الرئيس في لقاء الأربعاء الماضي أيضا، رغم أن أحدا لا يشكك في إخلاص الرئيس ولا نزاهته، والدليل أن أحدا لم يتهمه بتقاضي ثمنا ليضعه في جيبه، أو يشكك أحد في ذمته المالية، فإخلاصه ونزاهته وحسن نواياه ليست مجالا للجدل أو التشكيك، فكل ما يوجه إليه من انتقادات، لم يمس ذمته.
موقف الرئيس في أزمة الجزيرتين لا يختلف كثيرا عن موقف القاضي، الذي يستقر الحكم في يقينه، بعد الاطلاع على الدلائل والقرائن، ثم يضع أسبابه ليطلع الجانبين عليها، وبعدها يصبح من حقهما الطعن عليها، وعندها لا يتململ القاضي من الطعن على حكمه، ففي الكثير من الحالات يقبل الطعن، ويتغير الحكم، وهنا لا يمتعض القاضي، ولا يعتبر ذلك طعنا في نزاهته.
من حق الشباب أن يخرج ليقول إنه لم يستقر في يقينه أن الجزيرتين سعوديتين، وإن الدلائل التي ساقتها الحكومة لم تسمن ولم تغن عن جوع، وليس من حق أحد أن يتهم هؤلاء الشباب بأنهم يسعون إلى هدم الوطن، أو العبث باستقراره وأمنه، فهم يبحثون عن حقهم في اليقين واستقرار الضمير الذي ينعم به المطلعون على بواطن الأمور، وبينهم الرئيس.
ما صدر من تعليمات إلى وزارة الداخلية بعدم التعامل بالعنف مع الشباب المحتجين، والإفراج عن المقبوض عليهم في مظاهرات “جمعة الارض”، هو التصرف الأكثر رشادا، وأصبح عدم تطبيق قانون التظاهر عليهم، رجاحة عقل، لكن هذه المساحة تحتاج إلى المزيد من الاتساع، حتى تحتضن الدولة شبابا خرجوا ابتغاء لوجه الوطن، مطالبين بحقوقهم كشعب بلغ سن الرشد، ليس فقط في قضية الجزيرتين، لكن في كل ما هو آت من قضايا خلافية.
.