” الإعلام لا يصنع رأياً عاماً ابدا.. إنه فقط يعطيك الأدوات التي يمكنك أن تصنع بعدها توجهاً عاماً..”
قالها صديقي و أنا أمسك بهاتفي المحمول لأتصفح مواقع التواصل الإجتماعي كعادتي التي صرت أدمنها تقريباً..
“إنها أول الطريق .. بل لا طريق بدونها من الأساس .. إنها المعرفة.. الإعلام يأتي أولاً.. ثم يتبعه أي شيء ..”
أستمع اليه وأنا أهز رأسي دون أن أحول عيني من الهاتف .. قد أبدو لمن يتحدث أنني غير مهتم بما يقول.. و لكنني أسمعه بالفعل..
أدرك أنه قد صمت وهو ينظر إلي في غلٍ واضح .. فأترك الهاتف مبتسماً و أنا أشير إليه برأسي لأستحثه علي الإستمرار.. الموضوع يبدو مشوقاً
“تقول دراسات الرأي العام أن المعرفة تأتي أولاً.. ثم يعقبها الرأي.. لن تستطيع أن تكون رأياً في جارك الذي تراه مبتسماً عند المصعد كل صباح بأنه بشوش قبل أن تعرفه أولاً..فربما تكون هى اللحظة الوحيدة التي يفعل فيها هذا”
يبدو كلاماً منطقياً.. كيف يمكنك أن تكون رأياً طبياً عن حالة لا تعرف تاريخها المرضي ولا حتي شكواها .. هناك بعض المرضى الذين يتعمدون إخفاء بعض الأعراض أو الأشعات عن الطبيب بغرض إختباره .. إنه يريد أن يعرف ما اذا كان طبيباً ماهراً سيعرف التشخيص بالكشف عليه أم لا!.. في الأغلب ينتهي الأمر بهؤلاء المرضي أنهم يحصلون علي علاج خاطئ أو ناقص .. أو يستغرق الأمر وقتاً لا بأس به لأقنعهم أنني لست ساحراً لأكتشف أنه يعاني من إمساك مزمن !
” الرأي فعل سلبي مالم تعبر عنه بصورة ما.. و هنا يأتي الإعلام مرة أخرى لينقل رأيك هذا إلى آخرين.. و هنا يتكون ما يمكن أن نسميه بالإتجاه..”
أنظر إليه في إهتمام دون أن يفارق ذهني مشهد ذلك الإعلامي الذي كان يدعي أنه مفجر ثورة يونيو.. و كيف أنه كان يدعي أنه قد حشد الناس عبر شاشة التلفاز .. يدرك صديقي أنني غير مقتنع تماماً فيستطرد :
“والاتجاه أيضاً فعل سلبي لا قيمة له .. مالم يتحول إلى سلوك..
أعتدل في جلستي قليلاً.. الأمر يبدو هاماً.. يدرك هو أن الموضوع قد أثار انتباهي فيبتسم :
هل تدرك كيف قامت ثورة يناير؟ لقد كان الإتجاه موجوداً منذ فترة طويلة ضد مبارك.. و لكنه لم يتحول إلى فعل على الأرض إلا بعدما تقدمت وسائل الإعلام، و إنتشر الفيس بوك .. وقتها وصل رأي المعارضين إلى البعض الذين اكتشفوا أنهم ليسوا وحدهم الذين يملكون هذا الإتجاه.. و عندما إستخدم الثوار تلك الوسائل أيضاً لشحن كل من كان يعاني من الحاجة و الفقر و الإمتهان من الداخلية .. ولهذا وجد اتجاههم لدى الشارع مكاناً.. ثم إنتشر!
ثم إستطرد : هل تعلم أن ثورة ١٩١٩ قد تأخرت تسعة أيام كاملة حتى عرف الناس أن سعد زغلول قد تم نفيه ؟.. بل هل تعلم أن باقي محافظات مصر لم تعرف بقيام التظاهرات إلا بعدها بيومين؟
أتأمل ما قاله .. إنه على حق إلى درجة كبيرة..بل أن المشكلة القائمة بين الناس، والحكومة الآن ليست إلا لأنهم لم يكونوا يعرفون.. لم تهتم الحكومة بإخبارهم و كأن الامر لا يعنيهم من الأساس.. لقد بحثت الحكومة، و عقدت إجتماعاتها، و إتخذت قرارها بترك الجزر للسعودية دون أن تخبر أحداً..و لهذا تكون الرأي بمعزل عن كل المعلومات الضرورية.. و تحول إلى إتجاه..وسلوك!
لقد كان الخطأ الأكبر هو إخفاء الأمر عن الناس حتى اللحظة الأخيرة.. إنه خطأ من النوع الذي قد لا يفيد الإعتذار أو الندم فيه.. لا يصلحه سوى التراجع !
“عندما تغيب المعرفة .. تغيب معها الثقة بين الطرفين.. الناس، والحكومة.. و في الاغلب لا تعود بسهولة!”
أتناول الهاتف مرة أخرى بصورة لا إرادية لأتصفح موقع التواصل الأزرق الشهير فيهتف صديقي غاضباً:
“لا تستقِ معرفتك من الفيس بوك ياصديقي أبداً.. فهو قاتل للمهنة كلها..فإعلام الفيس بوك على الرغم من سرعته، و سهولة إستخدامه إلا أنه يقدم لك معرفة مصحوبة برأي، وربما إتجاه في نفس الوقت.. و لهذا فهو قد يجعلك تكون رأياً خاطئاً ”
أعرف أنه محق و بشدة .. ففوضى مواقع التواصل، و الصفحات قد تجعلك تقرأ الخبر نفسه بأكثر من طريقة .. و كل منها يجعلك تتخذ موقفاً ما .. فعندما تصدم سيارة مواطنا يمكنك أن تجد الخبر أن “مواطنا قد لقى مصرعه تحت عجلات سيارة” و يمكنك أن تجده “سائق سيارة يقتل مواطنا بسيارته” الأول خبراً عاديا.. و لكن الثاني إتهام صريح بالقتل !
قاطع أفكاري و هو يختم كلامه بلهجة تقريرية حاسمة
” الصحفي الناجح ليس من يملك رأياً سديداً.. و إنما من يستطيع أن يقدم لك الخبر الذي ستكتب رأيك أنت على أساسه.. الإعلام لا يوجه الرأي العام.. وإنما يقدم له الزاد الذي يمكنه من تكوين هذا الرأي بوضوح.. ”
لقد نسيت أن أرد على صديقي الذي يمازحني في التعليقات تحت منشور يخص مباراة الأمس.. ثم أجد .. ماهذا؟ .. هناك خبر كتبه أحد الأصدقاء على صفحته أن ذلك اللاعب الشهير سيسجن لأنه لص !.. أهتف في لهجة حاسمة: شفت؟.. فلان طلع حرامي!
متى إنصرف صديقي ؟ .. بل و لماذا رحل دون أن يدفع حساب المشروبات؟
.