لكن عزيمة “روزا” كانت أكبر وإصرارها كان أطغى، فقررت أن يسمع “يوسف وهبي” اسمها يتردد فى كل مكان، وما كان يتحقق لها ذلك إلا إذا أطلقت اسمها على مجلة تحمل اسمها فينادى باعة الصحف “اقرأ روزاليوسف”، لكن ربما لم يخطر ببالها أن اسمها سيصل إلى مسامع أحفاد يوسف وهبي!
وهنا بدأت القصة.. ففي أحد أيام شهر أغسطس عام 1925 كانت فاطمة اليوسف تجلس فى محل حلوانى يُدعى “كساب” وتتحدث عن حال الفن مع مجموعة من الأصدقاء، وتطرق الحديث إلى حاجة السوق الصحفية إلى صحافة فنية محترمة ونقد فني سليم يساهم في النهوض بالحياة الفنية ويقف في وجه موجة المجلات التي تعيش على حساب الفن كالنباتات الطفيلية –على حد تعبير فاطمة اليوسف- وفجأة لمع في رأسها خاطر وقفت عنده برهة قصيرة، ثم قالت للزملاء: لماذا لا أُصدر مجلة فنية؟
واتخذت القرار، وخلال أسبوع واحد فقط حصلت على الترخيص، وصدرت “روزاليوسف” فى 26 أكتوبر كمجلة فنية، ولكنها كانت مجلة لنخبة النخبة، فعانت كثيرا وانخفض توزيعها ونشبت خلافات بين أسرة التحرير التى كانت تضم فاطمة اليوسف وزكى طليمات عميد المسرح العربى ومحمد التابعى مؤسس الصحافة الحديثة، فـ”طليمات” كان يتمسك بالفن الرفيع حتى لو خاصم الجماهير، بينما “التابعى” كان لا يكف عن السخرية من المجلة، ويذكرهم بأرقام التوزيع الهابطة!
وكان لابد من تغيير يُنشط التوزيع ويُسكت “التابعى” وينزل إلى مطالب الناس دون إسفاف -على حد تعبير روزا- وبالفعل نجحت الخطة وارتفع التوزيع إلى 9 آلاف نسخة، لكن هذا النجاح لم يكن مُرضيا للسيدة فاطمة اليوسف، فقررت أن تصبح مجلة سياسية، وحين حاولت الجهات المعنية منعها من الحصول على الترخيص ذهبت إلى رئيس الوزراء “أحمد زيوار” باشا، واحتجت وطالبت بإعطائها الترخيص، ودُهش حين علم أن الوزارة تمنع الترخيص بإصدار الصحف السياسية وقال “اعطوها الترخيص.. خلوها تاكل عيش”، وانصرفت والترخيص فى جيبها.
وألحت على التابعى ليكتب فى السياسة ووافق بعد محاولات كثيرة، فتمت مصادرة المجلة مرات عديدة لهجومها على الحكومة، وكانت الوزارة لا تُصادر المجلة إلا بعد أن يتم طبعها حتى تكون الخسائر المالية كبيرة، لكن “روزا” ظلت تعاند وتواجه وتُصدر مجلات أخرى لدرجة أنها فى عام واحد فقط أصدرت أربع مجلات هى “الرقيب” و”صوت الحق” و”الشرق الأدنى” و”مصر الحرة” وكلهم تمت مصادرتهم، لكن عادت مجلة “روزاليوسف” واستمرت فى كفاحها وعنادها، وجرأتها، ومشاغبتها، وانحيازاتها، واختلافها.
فلم تُمسك العصا من الوسط، ولم تقف في المناطق الرمادية حيث ينتظر الباحثون عن الغنائم الذين ينتظرون الفائز ليحتفلون معه، ويرقصون حوله، لكنها كانت تقف على خط النار، وذهبت فى الهجوم والتأييد إلى أبعد الحدود وخاضت معارك كبرى وكانت تعلن انحيازها دائما حتى لو اختلفنا معه وعليه؛ لذا نظلم روزاليوسف إذا حصرناها فى كونها مجلة أو جريدة أو حتى مؤسسة صحيفة كبرى وعريقة فـ”روزاليوسف” قصة كفاح يجب أن تُروى لأجيال حاضرة وأخرى لم تأت بعد؛ لأنها قصة صعود، وصمود، وألم، وأمل، وصبر، ومثابرة، وإرادة، وإدارة، وعناد، وكفاح.
لذلك حين أتحدث عن “روزاليوسف” لا أقصد المجلة أو الجريدة لكنى أقصد التاريخ الذى صنعته والعقل الذى شغلته والوجدان الذى سكنته فهذه المؤسسة بإصدراتها جزء من تاريخ وبريق هذا الوطن، فعلى الرغم من أنى لم أدخل مبنى مؤسسة “روزاليوسف” قط لكنى أشعر أنى أنتمى إليها روحيا -وخصوصا إلى مجلة “صباح الخير” -الشقيقة الصغرى لـ”روزا”-التى تحتفل هذه الأيام بمرور 60 عاما على تأسيسها كمدرسة كبرى صنعتها أجيال من الجبابرة، وتعلمت فيها أجيال من العمالقة، وضمت أساطير، وأساطين، وقامات تناطح السحاب من بينهم أحمد بهاء الدين وصلاح جاهين ومصطفى محمود وحجازى ومحمود السعدنى ومحى الدين اللباد وصلاح حافظ وغيرهم من العباقرة، والفلتات، والأفذاذ.
“روزا” كانت شاهدة على القرن بل إنها كانت الأكثر تأثرا بما جرى فى مصر خلال 90 سنة، فشهدت الانتصار والانكسار والأمل والألم والفرح والحزن، وكانت التعبير الأصدق على ما مرت به مصر طوال هذه السنوات.
كانت دائما وسط المعارك تقف مع السلطة حينا وضدها أحيانا كثيرة، ويذهب بعض رؤساء تحريرها للسجن، والبعض الآخر يذهب للقاء الرئيس!
هذه هى روزاليوسف كما عرفتها “مع أو ضد”.. “تناصر أو تناطح”.. “تُحرض أو تؤيد”.. “تخدم النظام أو تُمهد للثورة”!، لكنها فى كل أحوالها كانت تنتصر للمهنة، ولفنون الصحافة، ولذكاء الصحفى.
والسؤال: لماذا الاحتفاء بـ”روزاليوسف” الآن؟
والجواب: الأسباب كثيرة ولعل أبرزها مرور 90 عاما على تأسيسها، لكن السبب الأهم هو أننا بحاجة لنتذكر ونُذكر بتاريخ مجلة عاشت كل المخاطر وتجاوزتها، فرغم أن كل المؤسسات الصحفية خاضت وتخوض معارك كبرى من أجل البقاء والاستمرار فى تقديم رسالتها إلا أن “روزااليوسف” هى الأكثر خوضا للمعارك، والأكثر تفاعلا مع الأحداث، والأكثر دفعا للثمن، والأكثر تأثرا بالزمن، فالاحتفاء هنا ليس بالمجلة لكن بقصة الكفاح التى صنعتها “روزا” لعلها تكون مُلهمة لأجيال من الصحفيين مازالوا يتحسسون طريقهم، ويرون أن المهنة فى خطر حقيقى وداهم وليس أمامهم وأمامنا سوى أن نستلهم الروح التى تلبست “روزاليوسف” وجعلتها تصمد رغم كثرة المعوقات والتحديات والعقبات والتهديدات.
صمدت “روزاليوسف” ورحل كل الوزراء الذين هددوها، وكل الرؤساء الذين غضبوا منها وعليها، واختفى ذكر كل المسئولين الذين أوقفوا إصدارها أكثر من مرة، وبقيت وحدها تتحدى الزمن وتصارع من أجل غد أفضل وأجمل لعله يآتى.