هل قدمت الأجهزة الأمنية تقارير إلى الرئيس عن إحباط مظاهرات الاثنين الماضى الرافضه لاتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية، والقبض على عشرات الشباب بتهمة “نية التظاهر”؟، هل قالت القيادات الأمنية للرئيس بفخر “إحنا حمينا البلد”؟.
وفي المقابل، هل قدمت أي مؤسسة أخرى، أمنية أو استشارية، تقريرا للرئيس عن حجم الضرر الذي تسببت فيه الممارسات الأمنية من استياء شعبى، وتراجع في شعبية الرئيس؟.
يحضرني مشهدا واقعيا من فيلم “زوجة رجل مهم”، للمخرج محمد خان، يجمع بين صحفي سبق التحقيق معه بتهمة قلب نظام الحكم، والضابط الذي يجسد شخصيته الممثل الراحل أحمد ذكي، بعد أن التقوا صدفة في أحد المقاهي.
الصحفي: أنت كنت بتعمل كده ليه؟!، بتدور علي شهرة أو مجد أو ترقية ولا علاوة، أيه اللذة الغريبة اللي بتلاقيها لما تلفق لواحد تهمة؟.
الضابط: لذة أيه يا راجل أنت، أنا شغلي إني أحمي البلد.
الصحفي: مين اللي أقنعك أن التصرفات دي اللي بتحمي البلد؟!، ومين اللي فهمك أصلا أنك أكتر وطنية مني، أو من اللي قبضت عليهم؟.
الضابط: أنا خدمت البلد، ولولايا كانت الفوضى خربت كل حاجة، إحنا يا حضرة الصحفي في حالة حرب، ومسئوليتنا حراسة البلد من الأعداء.
المشهد كاشف جدا لواقع العقلية الأمنية، التى لا تضع أمام ناظرها أي اعتبارات سياسية، ولا مساحات للاختلاف، فرجل الأمن لا يعترف إلا برؤية الدولة، وعدا ذلك من رؤى، هي بالنسبة له محاولة لزعزعة الاستقرار، والإضرار بالأمن العام، يتعامل مع المختلفين على أنهم من الأعداء، هذا تصوره عن “خدمة البلد وحمايتها”.
وهنا تأتي مسؤلية صانع القرار السياسي في وضع هذه المخاوف الأمنية في حجمها الطبيعي، وفق التقديرات السياسية، ومناخ الديمقراطية، وحرية التعبير عن الرأي والاختلاف.
الانحياز الدائم لوجهة النظر الأمنية فى الأزمات السياسية على طول الخط، يبدو قرارا في غير محله، خاصة فى أزمة سياسية تشهد جدلا وانقساما شعبيا واسعا، مثلما هو الحال في أزمة جزيرتي تيران وصنافير، والتغليب الدائم للرؤية الأمنية، مع تفاوت درجة هذه المخاوف، يفقد الحجة فاعليتها في أوقات الخطر الحقيقي.
أن يضع صانع القرار المخاوف الأمنية أمام ناظره أمر لا يقبل الجدال، لكن الاعتبارات الأمنية ليست هى الاعتبارات الوحيدة التى يجب أن تتحكم فى المشهد على الأرض، ولا يجب أن تأكل مساحة التعبير عن الرأي، لتتحول إلى كتم لأنفاس المواطنين.
وحتى مع تغليب وجهة النظرالأمنية ، يجب أن يتم هذا دون استفزاز، فالأمر ليس خصومة ولا عداء بين الشعب والأجهزة الأمنية، وليس منافسة، ليتحول الأمر إلى ما يشبه المكايدة الأمنية للمعارضين، فمع المغالاة يتحول الأمر من الاحتراز إلى الانتهاك، ومن الحماية إلى التنكيل.
تحتاج العقلية الأمنية إلى ” صنفرة “، فالخلاف هنا ليس فى اتخاذ إجراءات احترازية، لكن في آلية تنفيذ هذه الإجراءات، لهذا خرج الأداء الأمني معيبا، مثلما حدث في شن حملات قبض عشوائي من المقاهي والشوارع، واقتحام المنازل فجرا، بالإضافة إلى مشاهد عبثية لبلطجية وسيدات يرقصون علي أنغام دي جي، ويرتدون تي شيريتات عليها صور الرئيس، ومحاولات اقتحام نقابة الصحفيين، فكان المشهد مثالا للتراجيديا السوداء، ويستحق صفرا كبيرا.
تشوهات الإخراج الأمنى لا حصر لها، بينها إجبار أحد ضباط مصلحة السجون لأحد الشباب الحاصلين على عفو رئاسي أن يسجد أمام الكاميرات، فمن المؤكد أن أحدا لم يعط تعليمات بذلك الأداء، لكنها طريقة الضابط فى “خدمة البلد”.
التنفيذ الأمنى المشوه يدفع ثمنه الرئيس، في صورة نزيف لشعبيته فى الشارع، ونزوح لقطاعات من مؤيديه إلى المعسكر المعارض، وهى تحولات باتت بالجملة، وليس بالقطاعى.
الخلل فى أداء الأجهزة الأمنية ليس بعيدا عن إدراك مؤسسة الرئاسة، وليس أدل على ذلك من القرارات الرئاسية بالإفراج عن دفعات من المحبوسين ظلما، وصلت لأكثر من 4 دفعات، إلا أن تكرار تلك الممارسات يجعلنا ندور فى دوائر مغلقة، يتراكم فيها مظاليم جددا، قبل الانتهاء من فحص المظاليم السابقين.