نقلاً عن “المصري اليوم”
قالها أمير الشعراء أحمد شوقى فصارت مثلا ساريا (نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء ففراق) هكذا قسمها شوقى قبل نحو قرن من الزمان إلى سبع مراحل، وهى نفس الانتقالات السبعة التى انتهى إليها أيضا هذه الأيام الأديب الشاب محمد صادق بأسلوب أكثر صرامة ومباشرة (البداية، اللقاء، العلاقة، الإدراك، الحقيقة، القرار والهيبتا)، شوقى أضاف لمسته الساحرة فى الموسيقى التى تنضح بها حروف وظلال الكلمات وانتهى إلى فراق فيه دواء أو منه الداء، بينما صادق وصل بمعادلة حسابية إلى هيبتا وتعنى رقم 7 باليونانية فهى أيضا بها الداء أو الدواء،الزمن يتغير ولكن الحب هو الحب تتبدل فقط وسائل التعبير.
هل قفز فيلم (هيبتا) فوق كل الحواجز الرقمية فى شباك التذاكر لأنه يتناول تلك العلاقة الخالدة بين الرجل والمرأة؟ دائما ما نبحث عن أسباب عديدة خارج الشريط السينمائى للحصول على إجابة، هذا هو حالنا عندما نواجه بنجاح استثنائى سواء كان نجاحا قائما على معايير جمالية أو تجارية، النجاح الطاغى يفتح شهيتنا دائما للبحث عن حقيقة خارج الحقيقة، عن نص خارج النص، وكأن النص لا يكفى، مثلا عندما يصعد عبدالحليم حافظ إلى قمة النجاح الجماهيرى مع انطلاق ثورة 23 يوليو نقول لقراءة شفرة النجاح إن الثورة هيأت مشاعر الناس لاستقبال ما هو جديد ومتمرد على السائد، فوجدوه فى صوت عبدالحليم حافظ، وننسى أنه مع حليم فى نفس الظرف الزمنى كان هناك عشرات من الأصوات تتردد على أثير الإذاعة المصرية بحثا عن مستمع ولكن النجاح كان فقط من نصيبه، على الجانب الآخر بعد هزيمة 67 يكسر أحمد عدوية الدنيا ونردد له (السح الدح أمبوه) وعلى الفور تصحو بداخلنا غُدة التفسير، فنقول إنها أغنية عبثية رشقت فى قلوبنا لأنها عبرت أيضا عن هزيمة عبثية، الحقيقة أن عدوية لم يأت بجديد ومثل هذه الأغنية وعشرات غيرها ترددت قبل وبعد الهزيمة ولكن الناس تقبلتها ورددتها فقط بعد عدوية لأن صوته هو الذى رشق فى قلوبهم.
مقدمة طويلة تبدو بعيدة عن المرمى، ولكن هذا هو المدخل الطبيعى لهذا النجاح الطاغى الذى لم يتوقعه أحد. الشريط السينمائى الذى يملك إشعاعا خاصا فى مفرداته هو الذى حقق كل هذه السخونة وتلك الحميمية، نجاح الرواية ربما يبدو عنصرا إيجابيا فلقد تجاوزت الأربعين طبعة، نعم انتشار الرواية لعب دورا ولكنى أرى أن الفيلم لعب دورا ترويجيا أكبر للرواية والدليل أن صور الأبطال تحتل حاليا غلاف الطبعات الجديدة التى تنفد فور طباعتها، عندما أقيم رواية (هيبتا) أدبيا أجدها فاقدة السحر الروائى ولكنها تنطوى على روح سينمائية تثير الدهشة، وكأنها كُتبت كمادة سابقة التجهيز لفيلم به بصمة سينمائية حديثة، السيناريست وائل حمدى التقطها كما هى وهذا بالمناسبة يحسب له، لأن العبث فى ملامح تلك الرواية بدافع البحث عن المعادل السينمائى كان سيؤدى إلى وأد حالتها السينمائية الحاضرة بقوة فى بنائها وتفاصيلها، البعض يقول إن التماس بين الفيلم والناس يعود إلى قضية الحب، هل شاهدتم أعمالا سينمائية بما فيها أفلام الرعب لا تنطوى بشكل أو بآخر على قصة حُب، السر الحقيقى أن المخرج هادى الباجورى منح فيلمه برغم تعدد الانتقالات الزمانية والمكانية والشعورية إحساس الدفقة الواحدة، لغة سينمائية ابنة هذا الزمن طازجة قادرة على الوصول للجمهور بما تتمتع به من بساطة بقدر ما تتمتع به من عمق، شاهدتها قبل نحو خمس سنوات فى فيلمه الروائى الأول (واحد صحيح) وكررها فى الثانى الأقل نجاحا (وردة)، الذى ظلموه عندما صنفه عنوة كاتب ومنتج الفيلم محمد حفظى بأنه فيلم رعب، هذه المرة، كان المخرج حريصا على أن يقدم نغمة إخراجية شعبية تتمتع بكل الألق والحداثة، صحيح أنك من الممكن برؤية سريعة تجد الفيلم يقع تحت إطار أسوأ تعبير أُطلق على الأفلام فى العقدين الآخرين وهو (السينما النظيفة)، والحقيقة أن الرواية تجاوزت تماما هذا المفهوم، فلم يكن الكاتب خاضعا لهذا الهاجس الأخلاقى، ولكن الشريط السينمائى كان حريصا فى الحفاظ على الأخلاق الحميدة وإلغاء أى قبلة أو حتى شروع فى قبلة، وأغلب الظن أن المنتج هشام عبدالخالق كان يفرض شروطه فهو أحد رواد السينما النظيفة فى هذا الزمن ورغم ذلك فإن الباجورى، كان قادرا على أن يقفز فوق هذا القيد، بحيل إخراجية تجعل المشاهد لا يستوقفه هذا الخط الأحمر، فهو يكمل المشهد ويصل للذروة، بدون أن يُشعرك أنه مقيد اليدين. الفيلم يقدم مثل الرواية أربع حكايات درامية تبدأ من الطفولة وتكتمل بالحكاية الخامسة لبطل الفيلم ماجد الكدوانى وكأنه يروى من خلال تلك السنوات حكايته هو عبر المراحل الزمنية المتعددة، السيناريو كان حريصا على ألا يقفل القوس، فهو يترك دائما لك مساحة أن تتأمل وتضيف، هى حكاية ماجد ولكنها أيضا حكايات مستقلة، ترسم فى النهاية (بورتريه) لحكاية الكدوانى، المونولوج هو البطل، ماجد الكدوانى يؤدى جُملا طويلة مكتوبة بحرفية عالية أغلبها مفردات من الرواية إلا أن السيناريست كان قادرا على الإمساك بالكلمة التى تحمل تحليقا إبداعيا، إلا أن فى الحقيقة لدينا ماجد الكدوانى حالة خاصة جدا فى القدرة على الأداء المنفرد لمسافات طويلة وهى منحة خاصة جدا، كما أن المخرج حرص أن يستعين بنيللى كريم فى مشاهد أغلبها صامتة فهى الزوجة العاشقة مهما مرت السنون، وكان حضورها وأيضا شيرين رضا بتلك النظرات التى تتبادلانها مع ماجد تمنح الكثير للشخصية وللمشهد كله، وبرع محمد فراج فى أداء الديالوج مع ماجد.
لو حاولت أن تحيل الأحداث للزمن ستجد طفلا وطفلا فى بداية الإحساس بالحب وهو عادة مشوب بالغيرة وبداية التقاط مفردات الحياة، وكان المخرج رائعا فى قيادته للطفل والطفلة وحافظ على تلقائيتهما، مرحلة المراهقة شخصية أحمد مالك كان بين فتاتين واحدة فى المستشفى والثانية خارجه، أبقى فقط السيناريو على الثانية، اختيار أحمد مالك كان ذكيا بما يملكه من شحنات عاطفية فى إحساسه وحضور طاغ أمام الكاميرا، وللمرة الثانية تؤكد جميلة عوض أنها تستحق كل هذا الحب، وسوف تتفتح فى القادم من الأعمال الدرامية، وتكتمل تلك الحالة مع أحمد بدير الذى يعيش الحياة، حتى اللحظات الأخيرة ويمنح الجميع أملا فى الإمساك بالحياة. كان بدير يبدو وكأنه فى حالة سلطنة فنية. ونصل إلى مرحلة أحمد داوود ودينا الشربينى، بإحساس البوهيمية الذى قدمه بإبداع داوود، أما دينا الشربينى فهى واحدة من أكثر بنات جيلها موهبة عندما تتاح لها الفرصة تقتنصها، مثلما شاهدتها هذه المرة. ونصل إلى عمرو يوسف وياسمين رئيس وهما شخصيتان تقفان على حافة الحياة وعلى خط التماس مح الموت، يكفى أنهما أمسكا ولو لحظة واحدة بومضة الحب.
لا تستطيع أن تتماهى مع هذا الفيلم بدون أن تتوقف أمام براعة مونتاج أحمد حافظ الذى استطاع أن ينتقل بين الحكايات الأربعة ويعود فى لحظات حتمية إلى ماجد الكدوانى، طبعا هناك ورق مكتوب بحرفية وقبل ذلك قصة تقطع الزمان من حكاية إلى حكاية فى أربعة اتجاهات ومخرج يضبط الإيقاع ليأتى الكدوانى بأدائه الدافئ ليضمن تلك الهارمونية، كان المونتاج بطلا كما أن موسيقى هشام نزيه الذى بات فاعلا بقوة فى الشريط السينمائى بتفهمه لتلك التفاصيل التى تكمن فى الصورة، مع مدير تصوير جديد جمال البوشى يملك تماما أدواته. هيبتا ليس فيلما نُطلق عليه تعبير أنه حطم الأرقام تحطيما فى شباك التذاكر، وبرغم أن هذه حقيقة، ولكنه سيشكل نقطة فارقة لمخرجه وأبطاله وقبل ذلك للجمهور الذى راهن على السينما وليس على أشياء أخرى، وأكد الجانب المضىء للجمهور عايز كده، نعم هو عايز كده، عايز (هيبتا)!!