إلتفت إلي في هدوء لم يتمكن من إخفاء الملل الذي يتسرب من بين خلجاته .. ثم قال في حسم : “المثقف الشريف ينبغي أن يظل علي يسار السلطة دوماً”!
لم أفكر في ما قاله كالعادة.. و منذ متي وأنا أفكر أو أحاول تفنيد ما يقوله الأستاذ؟! .. لقد بنيت معظم ثقافتي الأولي من كتاباته.. لقد تعودت أن أحصل علي كل ما يمكنني الحصول عليه منه.. ثم أعتبره من المسلمات التي لا يجوز مناقشتها.. يمكنك أن تعتبرني أحد مجاذيبه .. لا بأس.. بل ولن أغضب أو أحاول دفع تلك التهمة.. إنه الأستاذ!
و لكنني تأملت الجملة هذه المرة في محاولة لإستيعابها جيداً.. لم أفكر في تفنيدها .. و لكنني أحاول تطبيق الجزء العملي منها.. هل تفهم ما أعنيه؟! .. إنها مثل تلك الفرضيات الفلسفية التي كانوا يدرسونها لطلبة القسم الأدبي في مادة المنطق.. كل المحامون كاذبون.. و أنا محامي.. إذن هل أنا صادق في هذا الكلام أم كاذب؟!
الأمر قد إختلط علي بعض الوقت.. ليس بوسعي أن أستوعب الفرضية هذه المرة .. ترددت قليلاً .. ثم همست بخشية التلميذ الذي لم يفهم بعد: كيف يا سيدي يمكن التعميم؟.. لقد كان المثقفون في جوار السلطة الناصرية من قبل.. هل كانوا غير شرفاء؟
أجابني بزفرة طويلة ساخنة..و كأنه قد نفذ صبره من ذلك التلميذ الذي يشرح له الأمر للمرة المائة دون جدوي:
وقتها كانت السلطة نفسها يسارية يابني.. السلطة هي من أخذت جانب المثقفين وليس العكس..!
ربما كان محقاً.. بل هو محق بكل تأكيد.. و منذ متي يخطئ الأستاذ!
المشكلة أن الثوابت قد تنهار كلها .. فمن داهن السلطة هو غير شريف بالطبع.. هذا أمر مفروغ منه.. و لكن ماذا إذا كانت السلطة سوية؟.. ماذا لو كانت عادلة ؟.. هل معارضة السلطة هو واجب علي المثقف الشريف حتي ولو حملت العدل بين جبينها ؟.. هل المعارضة نفسها واجب علي كل مثقف شريف؟
لم اكن أملك إجابات لكل هذه الأسئلة.. و لكنني تراجعت عن السؤال عنها .. لا يبدو أنه سيحتملني لحظة أخري..
إنه الأستاذ.. و لهذا أدرك أنني في حيرة من أمري..
لم أسأله .. ولكنه أدرك انني أبتغي إجابة ما.. فاستطرد في هدوء أعرف جيداً أنه يبذل جهداً كبيراً ليحافظ عليه:
لا توجد سلطة سوية عادلة علي ظهر الارض.. العدل قد أصبح في السماء فقط ياولدي
إننا نصنع الكفة الأخري من الميزان .. نعيد المغيب الي رشده.. إننا نذكر السلطة دوماً أنه ما زال لديها ما تقدمه .. مهما بلغ عدلها و صلاحها..
السلطة مفسدة لصاحبها يا بني و لو كان ولياً من أولياء الله..و لهذا فقد بعث الله لعمر من قالت له لا سمع ولا طاعة ..
هل تفهم؟.. نحن لا نعارض لنحقق ما نبتغي.. فقط نحن نذكر بما ينبغي ان يكون..!
صمتت طويلا أمام حديثه .. إنه يطلب أن نصبح الجرس الذي يدق باستمرار حتي يفيق من يغفو..نعم.. إنه يعني أننا ينبغي أن نكون صمام الأمان الذي يحمي الحاكم من نفسه.. و يحمي الشعب من محاولات الظلم.. لا الظلم نفسه.. إنها مثالية مفرطة .. و لكنها حلم جميل.. جميل مثل الأستاذ نفسه.