يبدو أن دعوة عزمي مجاهد بتحرير نقابة الصحفيين من ” الخونة والشيوعيين والممولين ” لاقت صداها عند النظام، النظام الذي ترك ” المواطنين الشرفاء ” يحملون أعلام السعودية ويهتفون بأشد السعادة الهتاف المقيت ” الجزر سعودية رغم أنف المصراوية ” في اليوم الذي بكى فيه الإسرائيليون وهم ينزحون عن طابا !
مجاهد ومن معه يرون أن الاعتراض على التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير إساءة للدولة وخدمة لأجنداتهم الخاصة، لذا فقد قامت الداخلية بكل جبروت وفي سابقة الأولى من نوعها باقتحام النقابة وبالقبض على الصحفيين عمرو بدر ومحمود السقا لاتهامهما بـ ” التحريض على التظاهر في جمعة الأرض “، الهجوم تم بخمسين من أفراد الأمن وكأنهم يقومون بمداهمة إحدى البؤر الإرهابية، أو معسكر مافيا لترويج المخدرات أو السلاح!
لم يكن عزمي مجاهد وحده من يكيل الاتهامات والسباب والتخوين لكل معترض على ترسيم الحدود، فتلك الوجوه القبيحة القديمة لا تترك فرصة تمضي إلا بمجاملة النظام والحاكم في توزيع تُهم التخوين، ولكن هذه المرة قد شكَّلت اتفاقية ترسيم الحدود منحى جديد لفضح أكبر وأوسع لمزيد من الوجوه والممارسات، أولاها ممارسة وزارة الداخلية من شن حملات الاعتقال للنشطاء، واقتحام بيوت الناس في عز الليل ، وحتى التصريحات القائلة برفض الرئاسة لاقتحام نقابة الصحفيين المعلوم أنها ليست أكثر من مُسكنات إلى أن ينسى الناس الحدث الجَلل كالعادة، ويلتهي كلٌ فيما يلهيه!
يُعامل السيسي أفراد شعبه وكأنهم موظفون يُؤمرون فيَطِيعون، ويُوبَّخون فيلتزمون، ويُنُهَون فينصاعون، لا يُدِر بالاً للانتهاكات اليومية للمصريين على أيدِ أفراد وزارة داخليته والتي انتهت اليوم بحق الصحفيين، أين عدم ترويع الآمنين الذي يتشدَّق به الرئيس ؟! .. أين استيعاب الرأي المخالف وكفالة حرية الرأي التي يُمنينا بها في خطاباته المطولة ؟! أين احترام حقوق الإنسان التي تعهد بها والتي لا تُتَرجم على الأرض إلا بسياسات القمع والترهيب، كيف سيتحدَّث عن مداهمة المنازل دون أي سند قانوني كزوار الفجر في الماضي؟! كيف سيتحدَّث عن المحبوسين في قضايا الرأي والنشر ؟! كيف سيتحدَّث عن صدور أوامر ضبط وإحضار الصحفيين لمجرد أنهم نشروا مقالات يصفون فيها التعذيب الوحشي الذي تعرض أحدهم له، أو عن دعوات احتجاج وتظاهر على سلالم النقابة ؟! بل كيف سيتحدَّث عن اقتحام النقابة الذي لم يحدث إلا في عهده والشائع عدم رضاه عنه ؟!
لقد قالها السيسي صريحة في حديثه عن أهل الشر، لم يعد يقصد أهل الشر من إخوان أو إرهابيين يحملون السلاح، وإنما يقصد كل صاحب رأي وقلم وجريدة ونافذة إعلامية، من يكتب ويتكلم بغير ما يريد الرئيس، أو بغير إسطوانته التي يتغنى بها على الشعب، لقد قال : ” ما حدش يتكلم في الموضوع دا تاني ! ” ، ولقد تكلم كثيرون، ومن تكلم فقد تم إلقاء القبض عليه، أو اعتقل من شارع يمشي فيه، أو من على قهوة يتسامر عليها مع زملائه، أو نقابة يعتصم فيها اعتراضاً على اقتحام بيته، ومن تكلم ولم يُعتقل حتى الآن فدوره في انتظاره، كل معارض بلسانٍ أو قلم سيقف في طابور الاعتقال، تماماً تماماً بالسهولة التي تم جذب عابرٍ لم يشارك في مظاهرة إلى ” بوكس ” الشرطة، حتى يتم تستيف قضية تكدير السلم العام ومحاولة إسقاط الدولة، بالوصول إلى العدد المثالي من معتقلي تظاهرة اليوم!
تستمر النداءات بالنصح لتغيير السياسات، وتتعالى الصيحات بالتحذير من سياسات القمع، والمناشدات بتغيير التعامل بالمنظور الأمني فقط ولكن النظام يؤصل للَّا قانون وللَّا دستور.
سنظل في نفس الدائرة المغلقة، تجاوز من الدولة في حق مواطنيها، ثم دعوات للتظاهر، ثم قمع واعتقال، ثم اعتصامات ومزيد من دعوات الاحتجاج، ثم اقتحام منازل ونقابات ثم تبدأ الدورة من جديد ! من يتحدث عن الاختفاء القسري يبقى برادعاوي خاين وعميل، ومن يرفض التنازل عن الأرض يبقى عميل ومرتزقة، والأمن في الشوارع يتسلى على اللي رايح واللي جاي، وهات بطاقتك وطلع اللي في جيوبك وافتح الشنطة اللي معاك وفرجني موبايلك ! ولكن يبقى السؤال البديهي : كيف لعمرو بدر ومحمود السقَّا ألا يتوقعا أن يتم اقتحام النقابة وإلقاء القبض عليهما من قلب نقابتهما ؟! بل كيف للجميع ألَّا يتوقعوا حدوث ذلك وقد تم حصار مقر حزب الكرامة منذ أيام وإغلاق محيط نقابة الصحفيين وعدم ترك ” موطأ قدم ” للاحتجاج، إذاً فمنطقي جداً ما حدث اليوم، فالنظام الذي يروع الآمنين في بيوتهم، ويصدر أوامر القبض على الغيورين على التنازل عن الأرض ويتم اختطافهم من الشوارع ومن على المقاهي، ويحاصر النقابات ومقرات الأحزاب لم ولن يردعه أي قانون ولن يوقفه ضمير حي أو ميت !