ها هم الصحفيون قد وُضعوا تحت الاختبار في حدث تاريخي لم يحدث قبلاً وهو اقتحام نقابتهم المهنية التي تعتبر قلعة الحريات وحاميتها، في مواجهة أجهزة أمنية تحتاج إلى الكثير من التباحث والمراجعات لكي تصل إلى رؤية شاملة متقدمة وراقية حول مفهوم الأمن حامي المواطن وليس عدوه، خادم الشعب وليس السلطان.
موقف نقابة الصحفيين من أزمتها مع وزارة الداخلية رغم ما يبدو عليه من عند وتربص، إلا أنه الأفضل على الإطلاق في مثل هذه الأزمة، من الناحيتين المهنية والوطنية، فلو تصورنا الصمت من جانب النقابة عن الاقتحام الأمني إذن فأين كرامة الصحفيين بل أين كرامة المواطن المصري الذي يرى في المؤسسات المهنية بشتى أنواعها حماية مادية ومعنوية من أي أخطار يمكن أن يتعرض لها، لاسيما والقانون يقر أحقية النقيب في التواجد أثناء تفتيش مقار النقابة، مع التذكير بأن الصحفيين المقبوض عليهما “عمرو بدر، ومحمود السقا” مازالا في مرحلة الاتهام ولم يتحولا إلى جناة؟
كثير من الصحفيين غير النقابيين،”منهم أنا”، أيدوا الموقف النقابي لما فيه من شموخ وحرية يفتقدها البعض ربما لعوامل شخصية أو لأسباب يرونها وطنية، لكن في كل الأحوال، هؤلاء وأولئك يعبرون عن مواقفهم من الأزمة الأخيرة بحرية، ما يدعو إلى التفاؤل في ظل ما تعانيه الدولة من صدمات هي نتائج للثورة المصرية التي كشفت كم الترهل والعشوائية المدارة بها أجهزة الدولة، هذه الصدمات التي لاتزال باقية تطل برأسها من حين لآخر، تغربل ما يمكن غربلته وتطهر ما يُستطاع تطهيره.
المطالبة بإقالة وزير الداخلية تكاد تكون عاملا مشتركا بين جميع الصحفيين المعترضين على الاقتحام الأخير وهم غالبية ساحقة بمقارنتهم بالمؤيدين للاقتحام، وأعتقد أنه مطلب سهل المنال إذا اقتنع به رئيس الجمهورية، خاصة وأن هذا المطلب جمع ممارسي المهنة في خندق واحد رغم خلافاتهم واختلافاتهم في الفترة الماضية المشحونة بالأحداث العصيبة المتوالية.
أرى إقالة وزير الداخلية خطوة مهدئة من نيران الأزمة المشتعلة بين الداخلية والصحفيين، فهي تعني “إذا تحققت” إزالة القمع المعنوي عن الصحفيين، وإلا فإنهم سيشعرون أنهم يسيرون على حافة التكميم، فإنسان بلا كرامة يعتبر بلا رأي، وهي غير مقصود بها شخص الوزير بقدر ما يُقصد بها توصيل رسالة مفادها أن لا أحداً فوق القانون، ولا جهازا فوق كرامة المواطن.
لكن السؤال الأهم الذي لابد أن يتصدر هذه الأزمة: ماذا بعد إقالة وزير الداخلية؟
ببساطة شديدة نستطيع أن نجيب على هذا السؤال بأن وزيراً آخر سوف يحتل المنصب بنفس العقلية والأساليب القديمة، كالعادة، ولك أن تتوقع عزيزي القارئ إعادة نفس الأحداث أو أكثر منها تعقيداً لأن المنظومة لا تتغير بتغير شخص الوزير، إنما بالمصارحة المؤدية إلى التطوير والتحسين والتنقية، إذن فتغيير رؤية المنظومة الشاملة من الحتمي أن ترافق تغيير الوزير، هذا هو الهدف الذي لابد أن تستهدفه الحكومة في الفترة المقبلة، لكي لا تتكرر الأحداث المتهورة غير المحسوبة في مواجهة المواطن المصري.
ليس من مصلحة أي مصري وطني استفحال العداء بين الصحفيين والشرطة في ظل التربص الإخواني للتواجد السياسي على حساب تماسك المجتمع، لكن من جهة أخرى علينا ألا ننسى أن المواقف المهنية والوطنية الحاسمة هي التي تشكل المجتمعات المتطورة، فليس على المصريين أن يتنازلوا عن حقوقهم الأساسية خوفاً من عدو معروف سلفاً، لأن هذا سوف يصب في مصلحة الفشل، ومن فشل إلى فشل حتى الضياع، وهذا ما نرجو عدم حدوثه.
أكاد أجزم أن وزارة الداخلية بها من العاملين من يستطيعون عن جدارة إحداث تجديد شامل لمهنتهم مثل أي مهنة مصرية تحتاج ولابد أن تسعى لإحداث تحسينات عملية على الهيكل التنظيمي لها، بهذا يحتمي الوطن من أخطار مستقبلية داهمة ينتظرها الأعداء على أحر من الجمر.