نقلا عن الشروق
للهيبة أصولها وللقوة حدودها.
من دواعى تقويض هيبة الدول الإفراط فى القوة بلا سند قانونى أو أخلاقى واستعراض العضلات بلا سبب مقنع.
القوة المفرطة لا تؤسس لهيبة أو استقرار ولا تحفظ أمنا وتسحب على المفتوح من رصيد الشرعية.
هذه حقيقة تأكدت على نحو لا يمكن إنكاره فى أزمة نقابة الصحفيين.
فى الأزمة تبدت مغبة تغييب السياسة وتغول الأمن خارج ميادينه.
لا يوجد مجتمع واحد فى العالم يستغنى عن أمنه غير أن ذلك لا يعنى تفويضا بالاعتداء على حق المواطنين العاديين فى الكرامة الإنسانية وحق النقابات المهنية فى صون حرمتها وحق القوى السياسية فى الاعتراض على أية قرارات لا توافق عليها.
وفق أية قواعد حديثة لا يصح للأمن أن يتجاوز طبيعة وظيفته ولا أن يدير بالنيابة الملفات السياسية.
تفلتات الأمن تسحب من الهيبة وتمنع الدولة من أن تستقر على أوضاع صلبة.
لا يمكن الحديث عن دولة قانون فى مصر الآن، فقد استغرقت التحرشات ونزعات الانتقام والكراهية والتحريض الأداء الأمنى العام.
ما جرى فى شارع «عبدالخالق ثروت»، حيث مقر نقابة الصحفيين، ينذر بأزمات أكبر فى أماكن أخرى ومخاطر لا سبيل لوقف تداعياتها ما لم يوضع حد للتغولات الأمنية.
أغلق الشارع بالحواجز الأمنية، وجلبت جماعات ممن يطلق عليهم «المواطنون الشرفاء» إلى المكان بالمخالفة لقانون التظاهر المعيب الذى تحاكم بمقتضاه مجموعات من الشباب الغاضب.
بدا الاستفزاز فوق كل طاقة لأى صحفى يحترم نفسه ومهنته.
سباب يعف عنه أى لسان، واعتداء على كرامة الصحفيات بما لا يصح أن يكتب على ورق، واعتداء جسدى نال من بعض الصحفيين وهم يتوجهون إلى نقابتهم للمشاركة فى اجتماع الجمعية العمومية الأربعاء الماضى.
انفلات القوة تماهى مع ظواهر مخجلة تنال من اعتبار أى نظام.
لا سب السيدات بأشنع العبارات شجاعة ولا الهتاف ضد حرية الصحافة يشرف.
تبدت قمة المأساة فى استدعاء أغان من ذاكرة (٣٠) يونيو كـ«تسلم الأيادى» بمكبرات صوت يرقص على أنغامها من يتحرشون بالمارة صحفيين وغير صحفيين بألفاظ خارجة تحت رعاية أمنية كاملة.
ربما تصور الذين خططوا للمشهد المزرى أن الهتاف باسم الرئيس يضفى عليهم حماية من أى حساب محتمل ويخولهم تنكيلا بالصحفيين الذين طالبوا بإقالة وزير الداخلية.
كيف تدهورت إدارة الدولة إلى مستوى العراك فى الحارات الشعبية؟
إنه السؤال الأكثر جوهرية فى الأزمة كلها.
بسبب الاستفزاز الأمنى وحصار نقابة الصحفيين بعد اقتحامها لأول مرة فى تاريخها علت نبرة الاحتجاجات بصورة تومئ لصدامات أكبر تسحب من حرية الصحافة أى زخم مفترض ومن هيبة الدولة أى احترام ممكن.
لا يملك منصف واحد أن يخطئ الصحفيون فى غضبتهم على كرامة مهنتهم.
لكل فعل رد فعل مساوٍ له فى القوة ومضاد له بالاتجاه.
وكان فعلهم مدويا فى العالم بأسره.
تصدر الصحفيون الشبان المشهد الغاضب كأنها رسالة إلى المستقبل بتواصل العطاء من جيل إلى آخر فى الدفاع عن حرية الصحافة وكرامة المهنة.
كان هتافهم للحرية ملهما أن المعركة لا يمكن خسارتها.
تبدت قوة الصحافة فى وحدتها ومستوى التزامها بما استقرت عليه جمعيتها العمومية وخسر كل الذين راهنوا على انكسارها كأمثولة لكل من يفكر فى أن يرفع رأسه ويدافع عن الحريات العامة.
لا يقول أحد إن الصحفيين على رأسهم تيجان من الريش إذا ما دافعوا عن كبريائهم المهنى.
الحق فى الكرامة مكفول للمواطنين جميعا، لا لمؤسسات دون أخرى.
ولا يقول أحد إنهم يسعون إلى تقويض هيبة الأمن إذا ما اتخذوا قرارات ضد اقتحام نقابتهم، كأن هيبة الأمن فى اقتحام النقابات والاعتقالات العشوائية ومداهمات البيوت ومطاردة كل من يرى أن «تيران» و«صنافير» مصريتان لا يجوز التخلى عنهما.
هناك من يرفض الإجراءات التى اتخذها الصحفيون ضد وزير داخلية.
يقولون إنه وزير داخلية مصر وينسون أن هذه صحافة مصر.
الوزراء يتغيرون وحرية الصحافة مقدسة.
أدعو مخلصا إلى وقف كل استفزاز.
ليست هناك مصلحة واحدة لتصعيد بغير سقف وصدام بغير تعقل.
هناك مساعٍ تبذل لردم الفجوة الواسعة بين الصحافة والأمن غير أنها تستدعى مقاربة سياسية تدرك حقائق ما جرى وتعمل على عدم تكراره مرة أخرى.
أول ما هو مطلوب وقف الاستفزاز الأمنى برفع الحصار عن نقابة الصحفيين وإبعاد من يسمون بـ«المواطنين الشرفاء» عن المشهد كله عندما يحين موعد الجمعية العمومية التالية الثلاثاء المقبل.
وثانى ما هو مطلوب لقاء مفتوح بين الرئيس ومجلس النقابة مكتملا.
بعد ذلك فكل شىء يمكن حلحلته والأزمة يمكن تجاوزها.
لا يعنى تجاهل الرئيس لأزمة نقابة الصحفيين فى حديثه بـ«الفرافرة» أنها لا تشغله.
هيمنت الأزمة تقريبا على الأجواء كلها وأخذت الأطراف المختلفة فى تأويل بعض ما أشار إليه.
عندما يصف مصر الآن بأنها «شبه دولة» فهو على حق، إذ لا يمكن لدولة تمتلك أدواتها السياسية وتعرف مغبة أفعالها أن تتورط فى اقتحام نقابة الصحفيين وتدخل فى صراع مجانى لا سبيل إلى كسبه وفق حقائق عصر المعلومات وثورة الاتصالات.
غير أنه لابد أن يجيب على سؤال:
ما خطته لإعادة بناء الدولة من جديد؟
ولماذا التأخر فى إصلاح الجهاز الأمنى بالذات؟
رغم مسئولية وزير الداخلية المباشرة عن الأزمة المتفاقمة مع نقابة الصحفيين، فإن إقالته المحتملة بأى مدى منظور لا تغير كثيرا فى المعادلات الحالية.
القضية ليست استبدال وزير بآخر بقدر ما هى تغيير ثقافة وزارة الداخلية وطبيعة نظرتها لمؤسسات الدولة الأخرى وعلاقتها مع مواطنيها.
هذه مسألة إصلاح كلما تأخرت مواقيته ارتفعت قيمة فواتيره.
وعندما يدعو الرئيس المصريين إلى «أن نكون على قلب رجل واحد» فإن رسائل أزمة الصحافة والأمن لا توحى بأية إمكانية.
التوحد قضية توافق وطنى، وحوار لا إقصاء، وقواعد ديمقراطية لا تغول أمنى.
وعندما يقول الرئيس إنه «لا يخاف» فإن العبارة يصعب تفسيرها.
فما الذى يخيف وما الذى لا يخيف؟
ربما استشعر أن شعبيته تآكلت بفداحة وأن هناك من يرى الفرصة سانحة للانقضاض على نظامه.
بتراجع هيبة الدولة فكل الاحتمالات واردة.
القضية لا صلة لها بالطبائع الشخصية للرئاسات، أن تخاف أو لا تخاف، بقدر ما تعنى ضرورة التوقف أمام الحقائق وعدم العناد معها.
لا يمكن أن تستقر الدولة على تغول أمنى ولا أن تحفظ هيبتها بالقوة المجردة.