يخطئ من يظن أن الأزمة الراهنة بين نقابة الصحفيين ووزارة الداخلية يمكن أن تُحسم لمصلحة أحد الطرفين، بحيث يخرج منها طرف منتصر وفخور، وطرف آخر مهزوم ومذلول.
تلك الأزمة من نوع الأزمات التى لا يمكن أن تُحسم من دون «حل وسط»، لأن الطرفين العالقين بها يمتلكان قوة متوازنة، ويرتكبان أخطاء متشابهة.
فى مثل تلك الأثناء يكون الصراع «صفرياً»، وأحياناً «عبثياً».
الخاسر الوحيد فى مثل تلك الأزمة لن يكون سوى المصلحة العامة، ممثلة في الأمن والاستقرار وحرية الصحافة.
يقول الصحفيون: الداخلية انتهكت القانون، واقتحمت النقابة، والنائب العام هدد بحبس النقيب، والرئاسة تجاهلت الأزمة، والشرطة حاصرت المقر، واستعانت بـ«المواطنين الشرفاء»، وجيشت «الكتائب الإلكترونية»، لسب الصحفيين وتشويه صورتهم، والمعركة ليست شخصية أو فئوية، بقدر ما هي معركة الحريات والدفاع عن المهنة وكرامة العاملين بها.
وتقول السلطات: قيام الشرطة بضبط المتهمين المتواجدين في نقابة الصحفيين تم وفقاً للقانون، ويمكن أن نحاكم نقيب الصحفيين بتهمة التستر على مطلوبين، و«الإخوان» وحلفاؤهم من «أهل الشر» يستغلون الأزمة، ويسيطرون على مجلس النقابة، بغرض إشاعة الفتنة وتفجير الأوضاع. الدولة لا تخاف، ولا يلوى ذراعها، وسنحافظ على هيبتها مهما حدث.
تمتلك السلطة الحق في استخدام وسائل القوة بشكل مشروع، فهي قادرة على حصار النقابة، ومنح الغطاء لـ«المواطنين الشرفاء» لسب الصحفيين وترويعهم، كما أن بوسعها توجيه الاتهامات لأعضاء مجلس النقابة وغيرهم من الصحفيين، وسوقهم إلى السجون.
وتتمتع السلطة الآن بغطاء واضح من الرأي العام، الذي تم شحنه عبر بعض المنابر، ليتخذ موقفاً رافضاً لمطالب الصحفيين، ومعارضاً لسلوكهم، كما أن قطاعات من المواطنين باتت فاقدة للثقة في وسائل الإعلام، إثر الأداء المتردي لبعضها على مدى السنوات الفائتة. قد يغري هذا التقدير المادي لموارد القوة لدى السلطة، في إطار هذه الأزمة، باتخاذ موقف متصلب وخشن حيال الجماعة الصحفية، لكن هذا الأمر ستكون له عواقب سيئة.
يجب تقدير موارد القوة لدى نقابة الصحفيين والجماعة الصحفية أيضاً بشكل موضوعي، وهي موارد، على عكس موارد السلطة، تتسم بكونها كامنة ومستدامة ومعنوية، وهو أمر يصعب على الكثيرين إدراكه، لكنه يُظهر فاعلية قياسية في الأزمات.
نقابة الصحفيين منذ إنشائها لم تخسر معركة واحدة، ومعظم ما خاضته من معارك كان مستنداً إلى ذرائع أخلاقية ومعنوية ووطنية، وقد أظهر الصحفيون عادة قدرة كبيرة على السمو فوق الخلافات، والتوحد في مواجهة المخاطر التي تواجه مهنتهم، وقد كانت معركة القانون 93 لسنة 1995 خير شاهد على هذا.
الرأى العام يصب في صالح وزارة الداخلية في هذه الآونة، والنيابة العامة أظهرت مساندة لموقف الشرطة، ووجهت اتهاماً لنقيب الصحفيين، في بيان رسمي، والرئيس تجاهل المسألة برمتها حين تحدث في «الفرافرة» قبل أيام، و«المواطنون الشرفاء» في «عبدالخالق ثروت» وعلى «الإنترنت» يكيلون السباب للنقابة والصحفيين، وأجواء التحريض والإهانة تشتعل.
إذا حشرت الصحفيين في الزاوية، وأجبرتهم على تجرع كأس الذل صاغرين، سيشعرون بالإهانة، وهو أمر يمكن أن يقلب المعادلة، ويؤدي إلى أن تتحول النقابة إلى بؤرة احتجاج تتسع باطراد.
لا ضمان لاستمرار مساندة الرأي العام لموقف «الداخلية» في هذه الأزمة، ولا ضمان لاستمرار الأبواق التي تهاجم الصحفيين وتشيطنهم في العمل بالوتيرة ذاتها، لكن تأجج مظاهر الاحتجاج من قبل قطاعات من الصحفيين وغيرهم مضمون، وسيبدو هؤلاء في نظر كثيرين في الداخل والخارج «أبطالاً يواجهون الاستبداد».
تلك أزمة صالحة لأن تكون صراعاً مفتوحاً عبثياً، كما أنها صالحة لقبول «حل وسط» ذكي في آن واحد.
على العقلاء أن يتدخلوا الآن لإيجاد حل يحفظ هيبة الدولة ومقامها، ويحترم إرادة الصحفيين وكرامتهم، وهو أمر ممكن وسهل.