هند كرم تكتب : طاقة سلبية مدمرة

عـُدتُ لتـوّي من القاهرة بعد مهمة عمل رسمية ضمن الوفد الاعلامي الذي رافق جلالة عاهل مملكة البحرين في زيارته الاخيرة إلى مصر، ومن ثم ألحقتها بإجازة خاصة عائلية قصيرة كالعادة …

ما إستوقفني هذه المرة في زيارتي للمحروسة، أن أهلها أصبحوا أكثر ضيقا ببعضهم البعض في كل شيء ومن أجل أي شيء ، أصبحوا أكثر ضجرا بواقعهم وأكثر سعيا لإثارة الفتن وتكريس الإنقسام وأقل تمسكا بالثوابت والانتاج والأمل .

بالتأكيد في زيارتي الأخيرة قبل خمسة أشهر – كانت هذه الظواهر موجودة – ولكنها لم تكن بالحدة التي تسترعي انتباهي كناقوس خطر ؛ ” ربما ” ، قد يكون توالي الأزمات على الدولة في فترة زمنية متقاربة، واستمرار التعاطي معها بشكل خاطىء وغير سليم، وقد يكون بدء نفاد رصيد طاقة الصبر لدى المواطنين المصريين ولكن ( أي رصيد نافذ هذا ولازال مشوار الاصلاح والبناء في بدايته ) ؟! ، أو قد تكون أعراضَ موسم الربيع المتقلبة بطبيعتها ؟ ، أو ربما بسبب تفاقم الازمة الاقتصادية والارتفاع الجنوني لسعر الدولار امام الجنيه المتهاوي شكلا وقيمة ( وهو الشماعة الجديدة لكل خلل وهو أيضا أضعف الايمان ) !

نعم المصريون مشحونون بطاقة سلبية مدمرة، يشعرون بالضيق والغصة حتى وإن تعالت ضحكاتهم الساخرة في كل مكان وزمان، المصريون قلقون وتائهون رغم خطابات ورسائل تطمينهم المتكررة من السيد رئيس الجمهورية والحكومة الموقرة ، المواطنون غير قانعين بحاضرهم وأحسبهم غير متفائلين أو مستعدين لمستقبلهم رغم اطلاق المشروعات التنموية والاستثمارية الكبرى والخطط الاستراتيجية المرحلية وأجواء التفاؤل والامل التي تعم الارجاء !، نعم رأيت المصريين في طبقات اجتماعية متباينة غارقين في وحل التناحر المقيت داخل معارك حروب الجيل الرابع والخامس والمليون لإثبات أي فصيل منهم هو الأجدر بالبقاء والإستمرار والتسيد رغم السوئـيْن، المصريون اليوم باتوا في حالة ترقب لاتفارقهم انتظاراً للمجهول ويكفيهم في هذه المرحلة أنهم ليسوا كشعوب العراق وليبيا وسوريا !!

بهذه المفارقات المؤسفة وهذا المنطق اللامنطقي تدور عجلة الواقع وليس (الانتاج ) في مصر بعد ثورتين وبعد إكتمال خارطة المستقبل بانتخاب مجلس النواب الغارق هو الاخر في تخليص المعاملات، وصراعات النواب الخفية وطبع صكوك الغفران للسلطة التنفيذية .. فأين يكمن الخلل وأي الحلقات مفقودة ؟! لن أدعي معرفتي ببواطن الامور وخفاياها، ولكني دائما ما أصدق حدسي الذي لايخطيء ولم يخذلني قط قبل الان..

فالشعب المصري مثله مثل الشعوب العربية كافة لم يعتد على أن يكون شريكا في صنع القرار أو حتى الإستئناس برأيه من الأساس، هذه سمات وثقافات أصيلة في وطننا العربي وقد صنعها الغرب في أنظمته السياسية منذ قرون وعندما تم تغليفها وتصديرها لنا تلقفناها ومارسنا كأشباه ديمقراطية في صورتها الممسوخة المشوهة، وعن نفسي لست مع الديمقراطية المطلقة فهي لاتليق بنا، ولست مع أن يتم اطلاع وإشراك الشعب في كل صغيرة وكبيرة من صناعة القرار ولكن بالطبع هناك حد معقول مطلوب وصحي جدا من الحوار المجتمعي بمشاركة النخب الحقيقية ولا اعني فقط بالنخب الصفوة او كبار رجال الدولة بل تمثيل شرائح المجتمع بعقلائها ومعتدليها، حوار حقيقي “مسبق” لاطلاع الناس على العناوين العريضة من الموضوعات التي يتوجب فيها استطلاع رايهم بغرض الاستدلال والمشورة والاستئناس او كبالونة أختبار للرأي العام وليس مجرد ابلاغهم بها بعد اتخاذ القرار ومن ثم الدفع بالمبررات والتوضيحات بعدها…

لا يمكن إنكار حقيقة واضحة ابدا وهى أن غالبية الشعب المصري وبنسبة كبيرة تثق في الرئيس المصري المنتخب عبد الفتاح السيسي ويقفون خلفه ويساندونه إلى حد الضرر في كثير من الاحيان غير منتبهين إلى أن من الحب ماقتل ، وهذه الشريحة تحديدا هى الأكثر خطورة من أعداء الداخل والخارج أو “قوى الشر” كما يصفهم الرئيس دوما، فمن يثقون ثقة عمياء وينجرفون دون حدود هم أكثر المتألمين والمصابين بالصدمة والمنتكسين مع أول فعل حقيقي لايروق لهم وغير متوقع أو خذلان من القيادة ، ومن الخطورة أن تتحول هذه الطاقة المشعة بالثقة والمحبة والايمان والامل الى بركان غاضب … فكيف في مجتمع متنوع ومتباين الثقافات والانتماءات مثل مصر أن تتحقق المعادلة المتوازنة في تبادل الثقة بين طرفيها (القيادة والشعب ) ؟ في إعانة القيادة على السير نحو المستقبل بآراء صادقة مفيدة تطمئنن القيادة من شعبها وليس فقط تطمين القيادة للشعب ؟ كيف لمجتمع مايقارب من نصفه أمي القراءة والكتابة ويعاني من انهاك تام بسبب سوء الظروف المعيشية والاقتصادية جيلا بعد جيل وارتفاع الاسعار ومعاناة بسبب إزدياد الفجوة بين الطبقات الاجتماعية بشكل مرعب وحالة من التغييب والإلهاء للشباب وتفشي الفساد، واللامبالاة، والانانية، والانحطاط الاخلاقي أن يعين نفسه على تجاوز الأزمات حتى لايصبح فريسة للتطرف، والإرهاب، والجريمة والاعلام الموجه الذي ينحت في وعية ويعيد تشكيل ادراكه ووجدانه ومعنوياته سلبيا وكيفما يشاء ، كيف له ان يكون أهلا للاسترشاد به في الملمات والأزمات ؟ ( من مبدأ المساواة في الحقوق والمسؤوليات أيضا ) ….

نحن بالفعل في منعطف دقيق وخطير ويجدر بالجميع الالتفاف حول راية واحدة وهدف واحد دون تهويل أو تهوين، دون انقسامات جوفاء لاتكرس الا مزيداً من الفتنة والصراعات والاستقطاب والانجرار نحو مزيد من الاخطاء الفادحة ولنعلم جميعنا صغيرنا وكبيرنا – ” عـُمراً ومقاماً وعلماً “- أنه لازال امامنا مستقبل صعب ، مستقبل بعيد وليس قريب ولن نحصد وننعم بثماره الا بالوحدة وإقرار العدالة والحق وكفل وممارسة الحرية المسؤولة المنضبطة ، والانتاج والعمل بضمير واخلاص وإعلاء مصلحة الوطن فقط وفقط وفقط … لنفهم أن التطرف والغلو في المواقف والانقياد الاعمى في تبني الافكار وتكوين الرأي دون تفنيد وتعقل لا ولن يفيد حتى أصحاب المصالح …

وكصحفيين وإعلاميين ( ولا أملك التعميم ) ؛ قد عاهدنا الله ان نلتزم باخلاقيات مهنتنا التي أحببناها والتي اساسها الصدق والحقيقة والتنوير والمهنية ، ولانملك ألا الكلمة الحرة المسؤولة والقلم المستقل والضمير الحي ، لعلنا نكون جزءً من هذا “الدليل الاسترشادي” الذي ينبغي ان تسترشد به القيادة السياسية في مشوار الحُكم ويعود اليه الشعب سعيا لاستقصاء الحقيقة ، فليس كل الصحفيين بلطجية وليست كل الاقلام مأجورة ومسيسة وليس كل الاعلام فاسد ومضلل ومُسِّـف .
كنت ولازلت على يقين وإيمان تااام بأن أي دولة في العالم لايمكن لها أن تنهض وترتقي وتتقدم وتدب فيها الحياة بعد عصف الازمات بها إلا بسواعد مواطنين أخلصوا في حبها بل ذابوا عشقا فيها ، ولننتبه الى الأمل مطلوب ولكن دون الإغراق في الاحلام ، وأن أنصاف المشاعر والحب المنقوص للأوطان لايبنيها ولايحميها ولايصنع الولاء والانتماء.