محمد عبد الرحمن يكتب: رسالة من صحفي "صعلوك"

نقلا عن مجلة “صباح الخير”

 

“لكنني صعلوك عابر سبيل، ابن الحارة المصرية، ليس لي صاحب، لذلك كما ظهرت فجأة، سوف أختفى فجأة، فحاول تفتكرني” كلمات ودع بها جلال عامر نفسه وتذكرتها يوم الأربعاء الرابع من مايو 2016، حين احتشد آلاف الصحفيين في مقر نقابتهم الذي اقتحمه رجال وزارة الداخلية دون سند من القانون مساء الأحد الأول من نفس الشهر.

تذكرتها وأنا أشاهد بذاءات وسخافات المتظاهرين المأجورين -ليسوا مواطنين شرفاء- هؤلاء الذين جاءت بهم الداخلية ليحاصروا مقر النقابة ومنحتهم في منتصف اليوم وجبة كشرى ثمنا لرقصهم البائس ولسانهم الفاحش في حق صحفيين “صعاليك” انتفضوا غضبا لكرامة نقابتهم وفشلت كل محاولات “شخصنة” قضيتهم وتحريض الرأي العام -الحقيقي- ضدهم وليس المغيبون الخائفون من أي حراك، المذعورون من أي معارضة، الرافضون للإستماع إلا لصوت أنفسهم.

“الصعلوك” هو الفقير الذي لا يملك شيئا، الذي لا تسعده إلا حريته، يعلم أن رزقه بيد الله وحده، ويكسب قوته من عرق جبينه ومداد قلمه وشرف كلمته، هذه المهنة لأسباب عديدة بُنيت على صفات شخصية “الصعلوك”، الأمر هنا لا علاقة له بالأصل الاجتماعي وحجم ثراء العائلة التي انحدر منها الصحفي، ولا مرتبط بأن تساعد موهبة هذا الزميل أو ذاك في انتقاله اجتماعيا من طبقة لأخرى، فالصحفي الحقيقي حتى وإن ارتاحت عيشته مخلص للصعلكة، متعة حياته التجول بحرية في كل مكان، وكتابة كل ما يصل إليه من أخبار ومعلومات حتى يعرفها الناس، يكفيه نظرة احترام من عين قارئ، أو دعوة من قارئة نشر شكواها حتى لو جاءته بعد حين ترقص أمام نقابته تسبه وقبيلته لأن هناك من أخبرها بأن هؤلاء هم أعداء الوطن ودفع لها الثمن، الصحفي الصعلوك هو الذي منذ كان متدربا وحتى صار شيخا لا يهاب رئيسا ولا وزيرا، يضع رأسه برأس المسئول ويعلم أن المسئول ذاهب لا محالة إلى بيته فيما الصحفي جالس على ورقه يكتب وينشر حتى يأتي أمر الله.

“الصحفي” هو الذي يعمل من أجل أن يترك وراءه اسما يفخر به أولاده، وحكايات يرويها لهم عن حقائق لم يكن ليعلمها إلا لأنه صحفي، يسعى وراء المال نعم، لكن من أجل حياة كريمة، ومستقبل لأولاده، يعمل في 10 أماكن حتى يتعلم أولاده ما لم يحصل عليه هو من تعليم في زمن مبارك الذي لم ينته حتى الآن، يجمع دائما أوراق ومستندات الفساد من المواطنين الشرفاء حقا وينشرها فقط حتى يُصبح على مصر كل يوم ويقول لها “أنا عملت اللي عليا”.

نعم من بين هؤلاء الصعاليك، ثعالب ماكرة، يرتدون مسوح البسطاء في البداية وعندما يعرفون طريق “التطبيل” و”كتابة التقارير” يشرعون في كنز الثروات ويجنون معها احتقار زملائهم ويحجزون مبكرا مساحة تناسبهم في مزبلة المهنة، من بينهم أيضا الكسالي الذين ارتضوا أن يكونوا موظفين لدى مصادرهم من أجل دخل مستقر بلا مغامرة أو سعى للاجتهاد، لا هؤلاء ولا هؤلاء صحفيون حقا.

وحده الصحفي الصعلوك الذي يجد متعته في الجلوس على قهوة نهاية اليوم مع زملائه يشرب كوب الشاي ويناقش أحوال البلد ويحلم بأخبار وانفرادات تجعله يشعر دائما بأنه على قيد الحياة، هو الذي يشتري السيارة حتى يضع فيها الكتب والصحف ويصطحب الأولاد للنادي فيما هو يفكر في مستقبل المهنة وكيفية الوصول للقراء، وإذا ركب المترو لا يشكو من الزحام ورائحة العرق بل يفكر في تحقيقات وتقارير تعبر عن ما يجري تحت الأرض، وإذا خرج منه لم يهرب من الباعة الجائلين بل سعى ليعرف مشاكلهم ويكتب أوجاعهم، هم أنفسهم بالمناسبة المستعدون لضرب مقار الصحف بالحجارة لو قيل لهم هذا سبيلكم للحصول على الترخيص.

الصحفي الصعلوك ضحية الجميع، لا يحصل على أجر يرحمه من العمل في مكان واحد، تقول كل الأنظمة أنها تحترمه بينما هي عكس ذلك، كبار المهنة يستخدمونه في معاركهم السياسية، والآن يسبه المواطنون الشرفاء، تقتحم نقابته وزارة الداخلية، ثم يطلبون منه أن يسكت وإلا يصبح عدوا للوطن، يطلبون من “صعلوك” لا يريد من الدنيا شيئا أن يسكت عن حقه، مع أنهم لو عرفوا حجم حبه للوطن لقبلوا رأسه واعتذروا له وساعتها سيكون هو أكرم منهم ويدعوهم لدخول النقابة أو الجلوس على سلالمها بجوار صور الشهداء لتناول “كوباية شاي” أحلى كثيرا من علبة كشري يمنحها أمين شرطة لمن يرقص أفضل بجسد أنهكه المرض ويسب بصوت فاحش سرعان من يتبخر ويبق فقط صوت الصحفيين.