بعد استمرار مسلسل الحرائق فى مصر واخطرها فى وجهة نظرى حريق الرويعى وبعده حريق الغورية وغيرهم، يبرز سؤال صعب وخطير وهو من يشعل الحرائق فى مصر ؟؟!!
يمكن ان يرجع البعض تكرار الحرائق للمصادفة والقدر ولكن اى مصادفة تلك التى تجعل تتابع الحرائق شبه يومى وفى مناطق تجارية وليست سكنية، بل فى ميعاد متقارب وهو بعد منتصف الليل وهو وقت يستحيل ان يكون هناك اى تاجر او بائع فى مكانه او بجوار بضاعته.
عندما كنت اتفقد حريق الغورية بحكم عملى كمراسل تليفزيونى بعد يوم واحد من حريق الرويعى والذى قضيت فى تغطيته ساعات طويلة ونقلت شهادتى عنه عبر “اعلام اورج”، اكتشفت ان الخسائر فى الغورية ايضاً بالملايين فالمحلات متفحمة ومئات اتواب القماش محروقة ويترواح سعر التوب الواحد من 800 الى 1100 جنيه حسب الجودة، وقيل لى ان 17 محلاً تأثروا بالحريق ولكم ان تتخيلوا حجم الخسارة المادية، ولا ادرى لماذا وانا اتجول داخل ازقة الغورية الضيقة تذكرت عنوان لمسرحية مترجمة كنت قد ذهبت الى احد عروضها بالهناجر فى بداية الالفية الجديدة، لمقابلة فنانة شابة اثناء مشاركتها بها (وقتها كنت فى بدايتى الاعلامية واعمل فى مجال الصحافة الفنية)، وعلى ما اتذكر كانت الفنانة الشابة هى “كارولين خليل” ان لم تخنى الذاكرة وفى تقديرى ان “كارولين” ممثلة مختلفة فهى مثقفة ودائماً تحاول ان تؤدى ادوار تحمل افكاراً معينة وليس التمثيل من اجل الشهرة والمال.
ولا يمكن ان انسى ايضاً يوم ذهابى لعرض المسرحية لانى قابلت بالصدفة فى ذلك اليوم البعيد المراسلة التليفزيونية اللامعة وقتها “انجى المقدم” قبل ان تتحول لنجمة دراما تليفزيونية، وقبل قليل من عملى معاها فى التقارير الخارجية فى نفس القناة الفضائية، ولم ادرك تلك الحقيقة الا عندما عملت معها فى نفس القناة وسمعت صوتها فى تقرير عن المسرحية فتذكرت انها بطلة ذلك اللقاء الغريب.
كان العرض هو مسرحية عالمية اسمها “مشعلو الحرائق” وهى للأديب السويسرى “ماكس فريش” (1911/1991) عن دراما مسرحية رائعة عنوانها “بيدرمان ومشعلو الحرائق” (نشرت بين نهاية أربعينيات القرن العشرين وبداية خمسينياته)، دراما “بيدرمان ومشعلو الحرائق” بطلها السيد “جوتليب بيدرمان” والذى حقق ثروة مالية جيدة من تصنيع مستحضرات للعناية بالشعر ومتزوج من سيدة مريضة بالقلب لا عمل لها إلا رعاية المنزل ورعايته، وتظهر المسرحية الخوف الشديد للإنسان المعاصر على ما يملكه وما يتمتع به من منافع وامتيازات واستعداده الفورى للتخلى عن القيم والمبادئ السامية التى يتشدق بها فى سبيل الحفاظ على الثروة والملكية الخاصة، وجبنه الفاضح فى وجه الشر طلباً للنجاة الشخصية.
تضع الدراما السيد “بيدرمان” وزوجته فى مواجهة مع ثلاثة رجال يشعلون الحرائق فى المنازل تلبية إما لنزوع إجرامى أو لرغبة انتقامية ضد الأغنياء أو لمثالية أيديولوجية تدعى البحث عن العدل فى المجتمع بتقويض حياة أصحاب الثروة والملكية الخاصة، وتتطور مواجهة “بيدرمان” وزوجته مع مشعلى الحرائق الذين اقتحموا منزلهما إلى تواطؤ مع المجرمين دوافعه الخوف والجبن وطلب النجاة الشخصية ينتهى باحتراق المنزل ثم المدينة بأكملها، بينما السيد “بيدرمان” يتناول عشاء الصداقة مع مشعلى الحرائق.
وكان “ماكس فريش” قد كتب “بيدرمان ومشعلو الحرائق” فى أعقاب سقوط الفاشية فى أوروبا (نهاية الحرب العالمية الثانية 1939/1945) ليذكر الأوروبيون بتواطئهم مع حرائق “هتلر”،”موسولينى” إما صمتاً أو تحايلاً أو تأييداً، حتى بدأت منازلهم هم (أى مجتمعاتهم) فى الاحتراق، وكذلك ليحذر فى أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين من كارثة الصمت مجدداً إزاء فاشية سوفيتية ومكارثية أمريكية كانتا آنذاك فى صعود، ولكنه بالطبع لم يستطع بخياله الخصب التنبؤ بحرائق مصر فى منتصف عشرينيات القرن الواحد والعشرين!!
وبعيداً عن “ماكس فريش”، “كارولين خليل”، “انجى المقدم” اجد نفسى مدفوعاً بقوى اعلامية خفية لاعادة نفس السؤال البديهى وهو من يشعل الحرائق فى مصر ؟؟!! او بمعنى اخر اكثر وضوحاً من المستفيد من اشعال الحرائق فى مصر فى الفترة الاخيرة بذلك التتابع المثير للدهشة ؟؟!! يمكن ان تكون هناك اجابات متعددة تقرأها فى عيون اصحاب المحلات المحروقة او تسمعها من خلال همهماتهم التى لا يستطيعوا البوح بها للاعلام !!!! ولا يمكن بالطبع ان تكون دوافع مشعلى حرائق مصر الاخيرة هو العدالة الاجتماعية او تقويض ثروات الاغنياء كما كتب “فريش” فى الاربعينات من القرن الماضى لان المتضررين هذه المرة من الباعة وصغار التجار وليس الاثرياء والوجهاء، ويبقى اخطر ما فى تلك القضية هو ذلك الكلام العفوى الذى سمعته من تاجر فى الغورية فى اثناء حوارى التليفزيونى معه بعد الحريق عندما قال بالنص “ايه السبب؟! المنطقة ديه بقالها 100 سنة بتتاجر، العتبة اول امبارح والنهاردة الازهر.. ازاى؟! بكره حيكون ايه؟! هو ده السؤال اللى احنا عاوزين نسأله؟! مين اللى ورا الكلام ده كله ؟!”