نقلاً عن مجلة “صباح الخير”
نحن الآن عاجزون عن اكتشاف حقيقتنا بسبب هزيمة ثقافتنا أمام الثقافات الأخرى، وهزيمة ثقافتنا هنا لم تأت من ضعفها بل من تخاذلنا.
هكذا بدأ أنطون ميلاد مقدمة كتابه «كتاب اللغة المصرية الحديثة -دراسة وصفية» الذى ينتمى إلى كتب الدراسات البحثية.. لكن ما علاقة ذلك بما سماه «لغة مصرية حديثة»؟!
الفكرة التى يطرحها المؤلف فى كتابه هى أننا أصبحنا – بحسب رأيه – نرفض الاعتراف بكل ما هو مصرى، الأمر الذى يؤثر سلبا على نظرتنا إلى أنفسنا.
فالهوية المصرية أصبحت فى مأزق فلا أحد يعترف بوجودها، لأن الشعب المصرى إما غارق فى العروبة وإما منصرف لهويات أجنبية أخرى، والأمر ذاته حدث – كما يقول أنطون – عندما دخل العرب البلاد، كانت هزيمة المصريين الثقافية قد حدثت بالفعل تحت نير الاستعمار اليونانى – الرومانى، حيث انفصل لأول مرة الدين عن القومية المصرية، لذا بحلول العرب فضل المصريون أن يكونوا عربا، ربما حتى يهربوا من الضغوط التى فرضت عليهم، وهو الأمر الذى تجلى فى صورة فشل فى مناحى الحياة المختلفة.
ولهذا يرى أنطون أن اكتشاف الحضارة المصرية الذى تم فى عهد أسرة محمد على، من العوامل التى أدت إلى قيام نهضة حقيقية فى عهد تلك الأسرة، فيقول: «.. ومع بداية عهد محمد على بدأت نهضة القومية المصرية مرة أخرى، حيث بدأ المؤرخون فى الإشادة بالكبرياء المصرى، وتم اختيار النخلة والهرم سنة 1829 كشعار لجريدة (الوقائع المصرية) وهى أول صحيفة مصرية رسمية.
وفى عام 1825 وافق محمد على على تأسيس مصلحة صغيرة للآثار ومجلس أعلى للآثار فى القاهرة، بمشاركة المعلم والكاتب والمترجم الكبير الشيخ رفاعة رافع الطهطاوى كمشرف على المجموعتين.
وفى عهد الخديو إسماعيل تم اختيار تصميم الهرم وأبو الهول ليكونا الشعار الرسمى لأول طابع بريد مصرى، وظل هذا الشعار ساريا حتى عام 1914 – تاريخ إعلان الحماية البريطانية على مصر – وهكذا رسخت هذه الأدوات – صاحبة الاستخدام اليومى والملصقة على كل خطاب مرسل لقرابة خمسين عاماً وحتى لا شعوريا – فكرة الهرم وأبو الهول كرمز قومى لمصر، بل إنه عندما تم خلع الملك فاروق عام 1952 وتم رفع صورته من على العملات المعدنية والورقية، تم اختيار أبو الهول كرمز قومى ليحل بدلاً من الملك فاروق على العملات المعدنية وأوراق البنكنوت.
فلا عجب من أننا فى تلك الفترة تطورنا بشكل مذهل جعل مصر تنافس الدول العظمى فى تلك الفترة، فقد أدى اكتشافنا لتاريخنا إلى تصالحنا مع أنفسنا.. الأمر الذى أخرج الطاقات الإبداعية المصرية التى سبق فأنتجت حضارة مازال يحتار العالم فى أمرها.
•اللغة والنهضة الحقيقية
يحدد أنطون اللغة كأحد العناصر التى يمكن من خلالها قيام نهضة حقيقية، فيشير إلى أن فرانسيس بيكون قد حدد ثلاثة شروط لنهضة أوروبا منها استخدام اللغات المحلية والتخلص من أعباء اللاتينية.. فاللغة ليست أداة لتواصل الأفراد وتسجيل الأفكار فقط بل هى عنصر من عناصر الهوية التى من دون الاهتمام بها لن تسير الأمور كما يبغى الوطنيون.
الكتاب يتناول اللسان الذى يتحدث به المصريون فى حياتهم العادية، وهى التى يتعلمها المرء من أسرته وشارعه، التى يصفها علماء اللغة بـ (اللغة الأم)، فاللغة الأم هى اللغة التى يتعلمها الفرد من خلال أسرته ومحيطه الاجتماعى من دون مدرسة، أما اللغة الأجنبية فهى اللغة التى يتعلم الفرد قوانينها من خلال معلم.
ولذلك فأنطون يؤكد أن كتابه «أول دراسة لغوية متكاملة عن اللسان المصرى، نظرا لأن كل الدراسات السابقة كانت تتعامل مع اللسان المصرى بوصفه مجرد لهجة عربية أو لغة عامية وهو الأمر الذى يتنافى مع واقع اللسان المصرى وبالتالى ما بنى على باطل فهو باطل».
وينتقل الكتاب ليفند عبر مقالة تحليلية كل المصطلحات التى تصف اللسان المصرى، فمصطلح (لغة عامية) لايتوافق مع حال لساننا لأنه ليس مقتصرًا على العوام، بل إن العوام والنخبة بلا استثناء يستخدمونه وليس مجرد أخطاء لغوية، فالأصل فى اللغة هو مستخدمها وطالما اصطلح قوم على لغة فهى لغتهم، ولهذا فلا مجال لوجود أخطاء فى لغة بل هى مجرد تغيير فى استخدام قوم لأداة صنعوها، ولا هى مجرد لهجة فهناك اختلافات عدة فى جميع مستويات اللغة – وفقا للكتاب – بين اللسان المصرى واللغة العربية تجعله مستقلا عن اللغة العربية.
ويشير أنطون إلى أن تلك المستويات هى الأصوات (الحروف) والكلمات والنحو والدلالة، شارحًا كل تلك الفروق فى فصول كتابه المختلفة.
وبالرغم من أنه لم يذكرها -اللغة المصرية الحديثة- صراحة فى الكتاب، فإنه قد تناولها فى العديد من ندواته -كما عرفت منه- مشددًا على وجوب الاهتمام بها والاعتراف بها كلغة محلية لمصر، فضلا عن استخدامها كلغة للمصالح الحكومية والتعليم.
وعن ذلك يقول أنطون ميلاد: «إن الواقع فى مجال التعليم هو أن المعلم أو دكتور الجامعة يقوم بالتدريس باللغة المصرية الحديثة، فلا نجد فى مصر مدرسا أو دكتورا جامعيا يقوم بالتدريس مستخدمًا اللغة العربية حتى فى تعليمه للغة العربية نفسها، إلا قلة صغيرة لا تستخدم اللغة المصرية الحديثة ولا حتى العربية مستخدمين لغات أخرى مثل الإنجليزية فى دراسة الطب».
• اللغة (المصرية) و(العربية)!
الكتاب ينقسم إلى خمسة أقسام.. الأربعة أقسام الأولى عن أقسام اللغة المختلفة، أما القسم الخامس فهو يضم ملاحق عدة، كل ملحق منها يهدف إلى رسالة محددة، فنجد ملحقا عن بعض الكلمات ذات الأصول المصرية القديمة والقبطية فى إشارة إلى ارتباط لغتنا الحالية باللسان المصرى القديم والوسيط، كما نجد ملحقا آخر عن كلمات موجودة على لساننا المصرى تختلف فى دلالتها عن نفس الكلمات فى اللغة العربية، دلالة عن اختلاف اللغة العربية عن اللسان المصرى الحالية، وقاموس للكلمات التى جمعها الكتاب خلال فترة بحثه التى نرى فيها بوضوح ثراء اللسان المصرى.
الخلاصة أن الكتاب هو رحلة للبحث عن هوية مصرية يمكن أن نعتمد عليها فى نهضة حقيقية للبلاد – ربما لن يتم ذلك الآن – لكن فى وقت ما ستكون اللغة العامية أو اللغة المصرية الحديثة – كما أسماها أنطون – لغة رسمية للبلاد، وحين يأتى ذلك الوقت سيكون باحثو علم اللغة أدوا دورهم فى البحث وسبر أغوار لغة الشعب الحقيقية وتسطير قوانينها وعالمها.