“هذا وقد نجحت فرق الدفاع المدني في السيطرة على الحريق الهائل الذي شب في الساعات الأولى من الصباح ، وعلى الفور انتقلت إلى موقع الحادث سيارات الإطفاء حيث ..”.
حتى كتابة هذا المقال لم تنطفئ بعد النيران المستعرة في مختلف مدن ومحافظات مصر بشكل يومي وممنهج! ولم تبرأ حروق المصابين الغائرة من ضحايا هذه الجرائم الملكومين ، ولاعجب في ذلك وحروقهم جميعا من الدرجة الأولى طبيا وإنسانيا وإصابتهم جاءت في مقتل –في قلب قـُوتـِهم اليومي ولقمة عيشهم وتحولت نكبتهم خنجرا في خاصرة اقتصاد “مصر” وصورتها الأمنية.
أسبوع واكثر وأخبار سيطرة فرق الحماية المدنية والإطفاء على تلك الحرائق هي المتصدرة للمشهد.
فهل الدولة قابلة للإشتعال السريع الى هذا الحد؟ وهل فتيلها أصبح مغموساً بشكل دائم بمواد مشتعلة تحولها مع كل منعطف وكل أزمة إلى ألسنة لهبٍ لا تهدأ إلا بافتعال أزمة جديدة تـُنسي ماسبقها؟!
المتابع لتطورات الأحداث سيلاحظ أرقاما مرعبة في كم الحرائق المفتعلة والتي نتفق على أنها غير طبيعية أو بالصدفة، كما أنها ليست من حروب الجيل الرابع كما أجزم بعض العباقرة وجهابذة العلم!، خاصة وأنها استهدفت -ولازالت- مراكز ومناطق تجارية وصناعية هامة تمثل اقتصادا موازيا للاقتصاد القومي للدولة، مثل محال سوق العتبة والغورية ومصانع الأخشاب والبلاستيك والمواد الغذائية ومخازن وغيرها. والملاحظ أيضا أنها لا تشتعل إلا بعد منتصف الليل وبعد سيطرة الهدوء و”الأمان”على البلاد والعباد… فمن يا ترى المستفيد من جرائم حرق قلب مصر وأبنائها الغلابة وصهر طريق التنمية والبناء والأمن؟ هل قوى الشر من الداخل؟ هل المتآمرون والمحرضون في الخارج وعملائهم من المواطنين الشرفاء؟ أم الكارهون والحاقدون والمتنفذون؟ أم جميع هؤلاء؟
كثيرون ذهبوا إلى تبرير بعض الحرائق في العتبة والغورية بمنطقة الحسين تحديدا، وذهبوا الى أنها النهاية الحتمية والمتوقعة منذ سنوات للعشوائيات وتكدس البضائع وسوء التخزين دون أدنى شروط للأمن والسلامة والحرائق وفشل نظام التامين ضد الحوادث وانتشار البائعين الجائلين بشكل خانق في مساحات الأسواق الضيقة والأزقة إلى حد زاحمت فيه المارة والزبائن والسيارات، حتى إن تصريحا هزيلا في غير موضعه للسيد محافظ القاهرة طالب بمحاسبة وحبس كل أصحاب المحال المخالفين والغير ملتزمين بشروط السلامة وأيضا الباعة الجائلين بدون ترخيص! عن أي مخالفات وتراخيص تتحدث يا سيادة المحافظ؟ هل كانوا يفترشون بضاعتهم في عرض الشارع بعد ارتداء طاقية الإخفاء مثلا؟؟ أين كنتم وسلفكم وكم من مخالفات ورشاوى وفساد سنوات وسنوات وسنوات، أين المحليات والتفتيش الصحي والأمن الصناعي ووو.. المُعطـَّـلون أصلا؟ الآن فقط كعادتنا وبعد حلول الكارثة نبحث عن الشماعات بين الرماد والركام!! يعني حرائق وخسائر بالملايين وموت وإصابات وعاهات دائمة وخراب بيوت ومعهم “غرامة وحبس هدية” وطبعا لاننسى قرار التعويض السخي وقدره (خمسة آلاف جنيه لكل مواطن متضرر)!!
واذا اعتبرنا جدلا أنها كانت النهاية الحتمية المحروقة للعشوائيات والفساد في “العتبة والغورية”، ترى كيف الحال مع حرائق باقي المحافظات في المناطق الصناعية الرحبة والغير عشوائية؟؟ حتى نضع الأمور في نصابها ونراها بالحجم الطبيعي، جميعنا يعلم أن الأحكام القضائية ضد قيادات الإخوان في قضايا التخابر، والمقرر النطق النهائي فيها نهاية مايو الجاري، ربما تكون المحرك الرئيسي في كل ما يحدث، وهذا سبب أقوى وأدعى ليقظة الأجهزة الأمنية ووضعها في حالة استنفار دائم، خاصة مع أول شرارة تنبئ بمنهجية الحرائق ووقوعها بشكل جنائي واضح، في أعقاب حريق الغورية –وكان الأجدر بها وبدلا من الدفع بكل قواتها وعناصرها لتأمين منطقة وسط البلد والشوارع المحيطة بنقابة الصحفيين وإنهاك جهدها في الصراع مع الصحافة أو تجميع الشباب من على المقاهي ومن منازلهم، أن تنشر دورياتها الأمنية المكثفة ليل نهار في كل مكان بأرجاء مصر، وتتحرك بآلية عمل طارئة لتأمين المنشآت التجارية والمصانع والأسواق درءا لمزيد من الكوارث، على اعتبار أن الدولة في حالة خطر حقيقي وليس (شوية حرايق وتروح لحالها ولاداعي للتهويل)!.
فعليا الحرائق في تنامي بأعداد مقلقة في اليوم الواحد، أما في الأفق فتلوح إرهاصات حرائق أخرى لاتقل خطورتها عن ألسِنة النار خاصة عندما تكون الأرضية ممهدة، وفتيل الدولة وعمادها ومستقبلها قابلٌ للاشتعال!…
أتحدث عن الأحكام بحبس نحو 150 شابا بتهمة التجمهر والتظاهر بدون ترخيص في 25 إبريل الماضي، والذين خرجوا للتعبير السلمي عن حقهم في القول بأن جزيرتي تيران وصنافير أراضي مصرية!! لنا أن نتخيل أن 150 شابا خرجوا دفاعا عن الحق في الأرض، ومن ثم يـُزجُ بهم في السجون ما بين سنتين وخمس سنوات لعدم حصولهم على ترخيص حسبما ينص قانون التظاهر!! لماذا الإصرار من الدولة على حرق فتيلها الفتيّ اليافع ومستقبل هذا الوطن؟؟ قد يبدو العدد ضئيلا في نظر المؤيدين لقرار حبسهم نسبة إلى ملايين آخرين من الشباب المصري، وقد تتعالى أصوات لمطالبين بالضرب بيد من حديد على عبث هذه الحفنة القليلة من الشباب الأرعن والذي -في رأيهم- لن يقدر على مجابهة الأغلبية الصالحة الفاهمة، أو تحدي الدولة الماضية في طريق البناء والإصلاح والتعمير!!
لست أبدا مع مخالفة القانون، ولست أيضا مع عدم تطبيقه أو تفعيله إلا في وقت الحاجة أو بشكل انتقائي، كما أنني لست مع مساواة الجزاء بين من اندسوا في تظاهرات الأرض في ذلك اليوم واصطادوا في الماء العكر وتداخلت شعاراتهم التسقيطية مع شباب حر تظاهر مرددا اسم مصر، مناديا بوحدة أرضها، ورافعا رايتها وهاتفا بحياتها فقط، شباب عبر عن رأيه كما يؤمن وكما تشكلت معرفته مما تعلمه في المناهج المدرسية وشبّ عليه في برامج التلفزيون المصري السياحية وجربه خلال رحلاته إلى شرم الشيخ وتيران المصرية!…..
أفهم أن القانون وُضع لينظم العلاقات ولكي يَحتكم إليه الجميع بمساواة ودون تمييز، وأن العقوبات تتدرج وتتفاوت بما يتناسب مع حجم الجـُرم أو التهمة في حال ثبوتها، واذا كان هؤلاء الشباب قد أخطأوا في نظر القانون وفي عُرف مجتمعهم الفاضل ويجب معاقبتهم، فأفهم أيضا أن يكون الجزاء تأديبياً وليس انتقامياً حارقا لمستقبلهم وناسفا لما بناه واستثمره أهلـُهم فيهم… هل يمكن لنا أن نتخيل، وبعد مرور خمس سنوات، نموذج الشباب الخارج إلينا بعد انقضاء محكوميته من سجون الجريمة؟ سلوكه، طبيعته، نفسيته بعد معايشته الملاصقة للمجرمين والإرهابيين والفسدة؟ وبينما نحن نستكمل المشوار لتحيا مصر، سنتبرأ من شبابنا “السوابق و أرباب السجون”، ونقتل فيهم الأمل، لننتظر فتيلاً قابلا للاشتعال.
كم سعدت وانتشيت وأنا اتابع في نفس الوقت، بفخر، شباب القوات المسلحة المصرية، الضباط المقاتلين المشرفين على تنفيذ وتسليم مشروعات الإسكان الاجتماعي والطرق والكباري، في حفل مهيب حضره السيد رئيس الجمهورية، ضباط لم تتعدى رتبهم العسكرية رتبة نقيب ورائد من خيرة الشباب،،، كم هو مشرف ومبهج نماذج الشباب المشارك في المشروعات التنموية الكبرى وفي برامج إعداد قادة المستقبل وفي المحافل الرياضية الدولية، ولكن هؤلاء ليسوا فقط شباب مصر كما أن 150 أو أكثر أيضا لا يمثلون وحدهم شباب مصر، هناك أنماط أخرى، لعلهم أصحاب الشريحة الأكبر من الشباب في مجالات ومواقع مختلفة وبسيطة، تحتاج إلى أن تكون هي أيضا في بؤرة الاهتمام، شباب بحاجة للأخذ بيده للخروج من حالة الإحباط واليأس والعشوائية التي تلازمه، هؤلاء الشباب لهم الحق في التعليم المحترم والعلاج الآدمي والعيش بكرامة، حتى نخلق لديه الوعي القادر على استيعاب ما تعنيه دولة المؤسسات والقانون، والاحتكام العادل إليه، قبل أن نحاسبه وننتقم منه على آرائه وتطلعاته ومصادرة أحلامه بوطن آمن عادل.