كان قصير القامة، ذو لحية طويلة بيضاء، يرتدى عباءةً من الكشمير وطربوشاً أحمر، ويلقى بشالٍ أخضر على كتفه، وعلى عينيه نظارة ذهبية مستديرة، ممسكاً بيديه مسبحة من العاج، وقابضاً بيده الأخرى على علبة صغيرة من النشوق، غريباً مخيفاً، ربت على كتفى قائلاً” أين الخازنداره؟”، قلت فى نفسى من المؤكد أنه مختل عقلياً، كنت وقتها فى الجراج الموجود بالدور الرابع فى مول البستان بمنطقة باب اللوق، فخفض نظارته قليلاً كاشفاً عن عينيه متمتماً بعبارات غير مفهومة يصاحبها صوت تحريك أصابعه لحبات مسبحته، فتصبب وجهى عرقاً من شدة الخوف دقات قلبى المتسارعه تكاد تشطر صدرى نصفين من الذعر، حتى سمعت صوتها من خلفى فاطمئنت روحى.
كانت تخيم على ملامحها الجميلة هيبة ناعمة، ترتدى فستاناً وردياً يعود إلى العشرينات وتغطى شعرها بغطاء حرير أبيض، قالت له “ماذا تريد ياشيخ الدجالين؟”، هنا أيقنت أننى وقعت بين جماعة من المجانين، قال لها بسخرية”الدجالين ؟؟” وأصدر ضحكات كادت تحطم زجاج السيارات الموجودة بالجراج، وأخبرها أن نبوءته تحققت فقد تحول القصر إلى جراج وتحولت هى من كبيرة الخدم إلى عاملة تغسل السيارات، هنا بدأت الدموع تتساقط من عينيها على شكل صفحات من كتاب عتيق ورقه أصفر.
ووجدت نفسى فجأة فى عام 1914 أسير بردهات قصر كبير، وسمعت الخدم يقولون أن الأمير فؤاد سيأتى بعد نصف ساعة ويجب أن يكون الطعام جاهزاً، أمسكت برأسى وتخوفت أن أكون قد جننت وأرى هلاوس، ووجدت فى يدى الأوراق الصفراء التى تساقطت من عين الخزنداره، وقرأت فيها أن ذلك القصر سمى البستان نسبة الى شارع البستان الذي كان فيه بستان يعرف ببستان الخشاب و كان الشارع يمتد من شاطئ النيل إلى قرب الخليج المصرى ، وكان يبدأ من عند سور قصر عابدين عند تلاقيه مع شارع عبد العزيز ويستمر غرباً إلي أن يصل إلي منطقة باب اللوق ثم يمتد ليصل إلي ميدان التحرير .
وبدأت أتجول فى غرف القصر، وكلما تخيلت أن هذه هي الغرفة الأخيرة، وجدت أن هناك براح أكبر مما ظننت، وأروقة عريقة ثم وجدت نفسى فى غرفة تشبه غرف أميرات الأساطير، بها شباك صغير يطل على حديقة مثمرة يمتزج صوت ماء بحيرتها بتغريد العصافير الساكنة لأشجارها، ورائحة الونس الدافىء تملأ الجدران وأصوات الضحك والغناء يتمايل لها الوجدان، حتى دخلت الخزنداره لتُخبرنى أننى هنا لست ضيفة بل من أصحاب البيت فهو جزء من تاريخ بلدى وميراث أجدادى، وفتحت لى باب يطل على لا شىء ويتطاير فى الفراغ أوراق محفور عليها أعوام وأيادى تحاول التشبث بيدى وأنا وحدى لا استطيع إنقاذهم، شعرت بالخوف والهلع وتمنيت أن يكون مجرد كابوساً، ثم لم يتبقى سوى أنا و شىء من الصمت الموحش.
وفجأة انطلقت صرخة مدوية فى أرجاء شارع باب اللوق الذى كان يخيم عليه الهدوء، فأسرع حارس القصر الديدبان نحو البوابة شاهراً سلاحه، واستيقظ جميع سكان القصر مهرولين إلى الشرف ليستطلعوا من وراء تلك الصرخة وعلى وجوههم الرعب والذعر، وتوجه الملك فؤاد وكان وقتها أميراً ومعه حارسه النوبى، ونور هانم خادمته التركية والشهيرة بالخزنداره، وبمجرد أن رأى زائر الليل “شيخ الدجالين” الأمير انطلق بكل جرأة إلى مدخل القصر وهو يدفع الحارس وأخذ يصيح بوجه الأمير تزوج .. تزوج !!
وفجأة وجدت الأعوام تتوالى مسرعة الأمير فؤاد تزوج من الأميرة شويكار .. أصبح ملكاً.. يتزوج من الملكة نازلى .. يتوفى .. القصريتحول إلى متحف للعلوم .. عام 1945 الملك فاروق يهديه لجامعة الدول العربية ليكون مقرا لها قبل إنتقالها لمقرها الحالي .. اسم الشارع يتغير إلى ميدان عبد السلام عارف .. القصر يهدم ويتحول إلى سراب ليصبح مكانه مول وجراج البستان
بات المكان موحشاً مظلماً، حقاً بعض الأماكن، كانت حيويتها تملئنا بهجةً و طاقة بمثابة بوابة حياة تدفعنا نحو الإبداع و والنور وبأيدينا نحولها إلى قبور موحشة تمتص أرواحنا بلا رحمة، محترفون نحن فى هدم الحضارة وتشويه الجمال، نغلق أعيننا و نصمُ أذاننا عن صراخات التاريخ التى تحذرنا من الهلاك الذى نخطو نحوه، ونتجاهل كل اللمبات الحمراء المحذرة لنا، ونتمادى فى حماقتنا فخورين ببلاهتنا نرقص على دقات ناقوس الخطر محتفلين وما نحن إلا راقصون على أطلال تاريخنا وحين نكتشف ذلك سنبكى كالأطفال وقت لا ينفع بكاء