الجدال في حضرة الموت وقاحة !
خمس كلمات ربما تختصر مامرّت به مصر وأهلها على مدار الايام الخمس الماضية بعد فاجعة تحطم طائرة مصر للطيران الخميس الماضي وارتقاء جميع من كانوا على متنها الى خالقهم في رحلة العودة الاخيرة من دار الممر الى دار المقر .
لن أتحدث عن نجاح أوفشل إدارتنا للأزمة ، ولن أعلق على كيفية تعاطي الاعلام المحلي والدولي مع الكارثة ، كما ولن أتوقف عند سيل التحليلات والتكهنات والتقارير التي انهالت بشكل هيستيري لتفسير أسباب سقوط الطائرة التي لازال صندوقاها الاسودان يقبعان في أعمق نقطة في قاع البحر المتوسط وبداخلهما الاجابات الفاصلة وفك شفرات مادار في هذه الرحلة المنكوبة!
المصاب جلل، وهيبته عظيمة ، وفي حضرة الموت لايليق إلا الدعاء والتعقل والاصطفاف حول راية الوطن ودعمه ومساندته حتى اجتياز المـِحنة ونكأ جراح ابنائه والوصول الى الحقيقة والتي وإن عُرفت فلن تُعيد الروح لأجسادٍ تحولت الى أشلاء … أما التفذلك بغير ذلك واعتبار أن كل المواقف والازمات قابلةٌ للصراع والجدل فهذا ليس الا حماقة وتنظيراً أجوف.
” إنتحارٌ حقيقي ” قد حدث بالفعل في “رحلة العودة الاخيرة لطائرة مصر للطيران MS 804″ –ليس لقائد الطائرة كما ذهب التقرير التحليلي ” الفاقد للاحترام ” الذي بثته شبكة ” CNN” الاخبارية الامريكية ولكن أحسبه انتحاراً للانسانية والاخلاق والمنطق.
فعندما يصبح مجرد الترحـُّم على ضحايا الطائرة والدعاء لهم بالمغفرة دون تمييزٍ لدينهم أوعرقهم أو لونهم هو موضعَ فتوى شرعية وتأويلات دينية لامحل لها من الاعراب ، فقد انتحرت الانسانية والاخلاق والمنطق !،،
عندما تطفو طفيليات اليكترونية لزجة لتهلل وتـُكبـِّر انتصاراً وشماتةً في موت أبرياء وتصف الحادثة بأنها القصاصُ الالهيُ العادل لنظام الانقلاب المصري الطاغي ومن والاه على حد تشبيههم ، فقد انتحرت الانسانية والاخلاق والمنطق !،،
عندما تـُترجم مساندتـُك ودعمـُك لوطنك والوقوفُ الى جانب شركة وطنية هي “مصر للطيران” والتصدي لمحاولات النيل منها وتشويه صورة منتسبيها المصريين أيا كانت الأخطاء السابقة أو مدى رضاك عن مستوى خدماتها ، عندما يفهم ذلك بانه نوعٌ من النفاق والتطبيل والتبدُل في المواقف وفقدان المهنية والشرف وتصبح وطنيتك موضعَ شبهات وجُرم ، فأنت هنا أمام انتحارٌ حقيقي للانسانية والاخلاق وكل المنطق ! ،،
عندما يرقص بعض من يصرون على اعتبار أنفسهم ” صحفيين وإعلاميين ” على أحزانٍ بشرية تنزف حزناً وقهراً وحسرةً على فراق أحبتهم في نهاية قدرية مأساوية لمجرد تحقيقهم لسبقٍ زائف أو الفوز بلقاء او اتصال مُسِّف مع أحد ذوي الضحايا لن يضيف شيئا سوى ” إجترار استنطاقهم” لوصف مشاعر الحزن والصدمة ، فبكل تأكيد أن المنتحرين هم الانسانية والاخلاق والمنطق !
الكلُ بكى على ليلاه ، ولكن ليلى “فعلياً” لم تجدْ من يـَبكيها ! ….
أزمة جديدة ومتلاحقة تعصف بمصر في “طقسٍ” شرق أوسطي مُعتدل ومستقر إلا من “مناخ إقليمي وعالمي” عام هائج ومشتعل .. ورغم أن مصر هي الضحية في هذه الكارثة تحديدا بلا أدنى جدال إلا أن اطرافا بعينها خارجية وبترويج من أبواقها في الداخل ، تـُصِّرُ على تحويل الدفة في “اتجاهٍ معاكس” وقلب المعادلة لوضع مصر عنوة في خانة المتهم وتحميل أجهزتها ممثلة في شركة مصر للطيران ووزارة الطيران المدني ولو جزءً من مسؤولية وقوع الكارثة حتى يعاودوا من جديد العزف على النغمة الممسوخة وهي ” ضرورة إعادة النظر في التأمين وشروط السلامة بالمطارات المصرية وطائرات ناقلتها الوطنية وجدوى استمرار الرحلات السياحية الى مصر بشكل غير آمن ” ! وعليه فمن غير المنصف عدم التصدي لهذا الارهاب الفكري والمعنوي المُمارس ضد مصر – بشيء من الانتماء والروح الوطنية والدعم المعنوي الذي لن يضر بقدر ماسيشحذ الهمم ويعيد شحنها لما هو قادم وربما أسوأ ..
التجارب السابقة في ثقافتنا المصرية أثبتت أن الكوارث قد تُضيـّقُ من حجم الفجوات بين المصريين وتخلق حالة لا إرادية من مشاعر الوحدة والتلاحم والالتفاف حول الوطن ، ولعل المصريين اتفقوا ايضا “لاإراديا” على أن لاوسيلة تلقائية للتعبيرعن هذه الحالة والمشاعر سوى الدعاء لمصر ورفع علمها دون الالتفات لأية اعتبارات خلافية اخرى .. وبالرغم من قيمة وسمو هذه المشاعر الا انها المُفرح المبكي في نفس الوقت ، حيث إن الانجازات والانتصارات لم تعد تخلق بالضرورة بين المصريين هذه الحالة الايجابية ولم تعد تحظى بأن تكون حدثاً وطنيا يقف المصريون على أرضيته المشتركة ويعملون من أجله ، بل للاسف بات كل ماهو مفرح في مِصر مبعثاً لمزيد الجدل والصدام والعراك والمزايدات الى حد الصراع على جدوى وصدقية هذه الانجازات والتشكيك فيها ولايترسب في نهاية المطاف الا الانقسام والتصنيف وتحول أطراف التجاذبات الى ” الخـِلاف ” على الوطن بدلاً من “الاختلاف” فيه . فهل يجب ان تستمر كوارثنا “لاقدر الله” حتى نتحد ونتحدى الصعاب وان نكبحَ جماح الانجازات المتسارعة في مشوار البناء والتنمية والمستقبل بدعوى أنها تُفرقنا ولاتجمعنا ؟؟ أحسبه هذا أيضا ضرباً من انتحار الانسانية والمنطق والوطنية ..
واقعيا نحن نواجه حرباً مفتوحة ( زمانا وجبهة ) – وفي معظم جولات هذه الحرب نواجه عدوا مجهولاً وغير اعتيادي يعمل على تطوير قدراته وإمكاناته الفنية والتقنية والتكتيكية والتنظيمية وأيضا التسليحية بشكل كمي ونوعي متصاعد وممنهج وخطير، فمن هو هذا العدو الذي بات وصفه معلوما لدينا بـ ” قوى الشر ” وصفاً فقط ولكن لانعرف تفاصيل أكثر عنه ، من هو ؟ من يدعمه ويقف ورائه ولماذا ؟ ماهي قوة نفوذه ودرجة شرّه ؟ وكيف يمكن التصدي له بوسائل تتناسب بل وتتفوق على امكاناته ! يبقى أن جوهر الفرق بيننا وبينه ، أنه “يرانا ويرصدنا” بكل وضوح ودقة ، بينما نحن ” نستشعر وجوده ” فقط لحظة البدء في حصد خسائرنا في أعقاب كل جريمة إرهابية يرتكبها بحق أوطاننا وحق البشرية وتترك آثارها مدموغة لاتُمحى من على أجسادنا وفي وجداننا وذاكرتنا وذاكرة أبنائنا .