“ولدتما معا وتظلان معا حتى في سكون تذكارات الله، فغنوا وارقصوا معا وكونوا فرحين أبدا”، كانت تستمع إلى تلك الكلمات لجبران خليل جبران بصوت فيروز المتدفق من راديو “التاكسي”، وبمجرد أن سمعت صوت المطر نظرت إلى النافذة بلهفة طفل يشتاق لحضن أبيه العائد من الغربة عقب غياب سنين تعبت من عدها ثم أغمضت عينها وعدت في الظلام 28 رقما ثم تذكرت عندما كانت تسيرُ وحدها ثم تسيرُ معه ثم تسيرُ وحدها كم كانت حدائقها جافة من قبل لقائه ولكنها كانت ثابتة على عروشها و تذكرت كم أينعت حدائقها معه وأصبحت آمنة ثم ذرفت دموعها حزنا على حدائقها التي باتت مهجورة مرعبة تصيبها بالوحشة والخوف وكم صارت ضعيفة بلا جذور.
رن هاتفها باسم صديقتها المقربة وفي وسط حديثهما قالت “يابنتى البعد ده أصعب عقاب من المحبوب للمحب مقرتيش كلام جبران لما قال “وهل من شقاءٍ في غير وحدة القلب” الونس يا بنتى حتى لو كان الحضن بالكلام مش بالإيدين.. ماشي ماشي سبيني ياستي لقناعاتي أنا قديمة شوية من أيام الحب العذري بتاع أبو العلا البشري خليكي إنتي في النسخة المشوهه بتاعة 2016″، وأغلقت الهاتف فوجدت سائق التاكسي وهو رجل في أواخر الستينات يبتسم لها قائلاً “والله زمان أخيراً لقيت حد فيه ريحة الحبايب”، نظرت له بتعجب متسائلة “مين الحبايب؟”، فقال “مي وجبران”، فقد كان والده سائق جبران خليل جبران ودوماً كان يقص له وهو صغير أحداث قصة الحب العظيمة بينهما.
في جبال شمال لبنان، وبالتحديد في وادي “قاديشا” الذي يرتفع نحو 1500 متر عن سطح البحر، نثر جبران بذور حب مي في قلبه بين أثاثه المتواضع وكتبه ومراسلاته التي كانت شاهدة على حبه، حيث يحتضن بيته شجر السنديان، والصنوبر، وعشب الوزال البري، تجد نفسك تتجول بين 16 غرفة سقوفها منخفضة، ومساحات ضيقة مرقمة بالعدد الروماني المحفور على خشب الأرز، وتجد كرسيه الخاص وسريره الصغير الذي يدل على قصر قامته، وعلى الرغم من كل ما كُتب عن علاقات جبران الغرامية بالعديد النساء مثل ماري هاسكل، وميشلين، فإن حبه لمي كان الحب الوحيد الذي تملك روحه حتى نهاية حياته، أحبها كحبه لوطنه لبنان، وبدأت مي في مراسلته بعد كتابته لقصة “الأجنحة المتكسرة”.
في بداية العلاقة تمسكت مي بالإعجاب الفكري وأجبرت جبران على الإلتزام بحدودها، فاتسمت لغتها بالحذر، وارتدت ثوب الرسمية لتخفي مشاعرها بألف قناع، حتى تساءل جبران متعجبا من خوفها: “أهو الخجل أم الكبرياء أم عقدة تسكن قلبها؟”، ولكنه أحبها كما لم يحب رجلاً من قبل امرأة، كانت الصديقة، والحبيبة والملهمة ورائحة وطنه، ومازالت صلواتها المقدسة صداها يملأ المكان وكأنه صراخ أم تحاول أن توقظ ابنها بعد الموت هل كانت قوية واثقة أم كانت مسكينة ساذجة تتمسك بسراب لتقضى عمرها كله تهوى بلا أمل.. بلا مقابل .. بلا شروط.
انتظرت “مي” 12 عاما لتبوح بمكنون قلبها في كتاباتها لجبران، في تلك اللحظة حدثت فتاة التاكسي نفسها بأن مي كانت تشبهها كثيراً، أكثر خجلاً في الحديث وأشد جرأة في الكتابة، وهربت مي مجدداً بعد أن وجدت أن الشيب غزا شعرها، ولكن لم تستطع أن تتوقف عن مراسلته قلقاً على صحته وعاشت بلا زواج طوال حياتها وحتى بعد وفاة جبران، وكتب لها جبران “لقد كتبت كل هذه الصفحات لأتحايد كلمة الحب.. إن الذين لا يتاجرون بمظهر الحب ودعواه في المراقص والاجتماعات.. يفضلون وحدتهم، ويفضلون السكوت، ويفضلون تضليل القلوب عن ودائعها، والتلهي بما لا علاقة له بالعاطفة.. ويفضلون أي غربة وأي شقاء على الاكتفاء بالقطرات الشحيحة.
“رفيقة” تلك الكلمة لم يطلقها سوى على مي، حقا قد نصادف الكثيرين فى حياتنا ولكن يظل هناك شخص واحد.. رفيق واحد للروح، نكون على استعداد لمنحه حياتنا بلا مقابل، نحبه لأنه يستحق الحب، وقتها فقط يمكننا -وقلوبنا مطمئنة- أن نسميه “رفيق الروح”، حقا لا شيءَ يُضاهى السير مع الأحِبَّة.. ألا أن أجنحتنا المنكسرة لا تُعالج إلا بأصواتهم ودفء أنفاسهم الطيبة، هم “المقربون” ..”القديسون” الذين يظل دفؤهم ساكناً الروح وسط كل ما نقابله في الدنيا من جفاء وبرودة.. وسط كل هذا الخراب، ربما الشوق نيرانه مؤلمة فهو طفلٌ مدلل لا يهدأ إلا إن نال مطلبه ومطلب كل شوق لقاء، فعلينا تهذيبه وتعليمه أن اللقاء ليس بالجسد فقط ولكن اللقاء الحق بالروح ربما نلتقي وكل منا في بلد تبعد عن الأخرى آلاف الأميال، ولا نلتقى ونحن نجلس في نفس الغرفة وعلى نفس المقعد.