محمد الباز يكتب: الدعاء على الصحفيين بالفضيحة ؟ (لماذا يكرهوننا 2)

وقفت سيدة تقترب من عامها الستين أمام صحيفة شهيرة، استوقفت رئيس تحريرها الذى أعتاد أن يصل مكتبه مبكرا، أمسكت بذراعه وقالت له: ربنا ينتقم منك، وتشوف فى بنتك كل اللى قلته على بنتى، تخلص منها رئيس التحرير بصعوبة، اضطرب بعض الشئ، استنكر ما فعلته، ثم سأل عن موضوع ابنتها، فلم يكن قرأه بالفعل قبل النشر.

كانت الجريدة قد نشرت تقريرا قصيرا عن ابنة رجل أعمال نحس على كل من يتزوجها، تزوجت ثلاث مرات، وفى كل مرة تحل كارثة بالزوج، فيحدث الطلاق، كانت السيدة الصغيرة قد تزوجت للمرة الرابعة، فعلقت الجريدة بـ ” ربنا يستر على جوزها الرابع”.

ستقول: وما الذى يجعل الصحافة تدخل بيوت الناس بهذه الطريقة؟

ما الذى يدعوها إلى أن تفتش فى صناديق أسرارهم، وتدخل مخادعهم؟

وما الذى يمكن أن يستفيد منه القارئ إذا ما عرف أن بنت فلان تزوجت ثلاث أو أربع مرات، أو أنها نحس على من تتزوجه؟

هنا أكثر من سؤال، واهدأ قليلا معى وتحمل ما أقوله.

أما لماذا تدخل الصحافة بيوت الناس بهذه الطريقة؟

فهى غالبا لا تدخلها بغير دعوة رسمية من أهل البيت، نجوم المجتمع ورجال الأعمال والفنانين والمشاهير،  يجتهدون فى دعوة الصحفيين والمصورين، يهتمون بأن تنشر الصحف أخبارهم، وصورهم التى تعكس حياتهم وثراءهم الفاحش، وإذا تأخرت الصحافة عنهم ألحوا عليها، وطاردوها، بل يبدون استعدادا لدفع ما لا يتصوره أحد حتى يجدوا أنفسهم نجوما على صفحات الصحف والمجلات.

لا يفهم هؤلاء الذين يدخلون الصحف بيوتهم، أنهم لم يشتروا الصحفيين، وكما سيكتب الصحفى ما تريده، سيكتب ما يريده هو أيضاً، فأنت لم تشتره، وأعتقد أن كثيراً من كراهية ما يسمى بالمجتمع المخملى للصحفيين، يعود إلى أنهم يكشفون ستره وسفاهته، ويظهرون جشعه وفساده.

وقبل أن تسأل عن الفائدة التى يمكن أن تعود على القارئ من هذه الأخبار التى تعتبرها تافهة؟

أقول لك أن الصحافة مهمتها أن تنشر كل شئ وأى شئ، لا يمكن أن يلومها أحد على ذلك، ثم أنك نفسك تلهث وراء ما تنشره فى هذه المساحة، وتمنحها الإشارة إلى أن هذا مرادك وطلبك.

وأنا فى جريدة صوت الأمة من ٢٠٠٠ الى ٢٠٠٥ أتذكر أننا نشرنا موضوعا مصورا عن الراقصة فيفى عبده التى كانت لا تزال فى عز مجدها، وفيه جاءت صورة من تلك التى يمكن أن تعتبرها مثيرة، يومها اتصل بى قارئ تليفونيا، وقال لى نصا: ربنا يجازيكم يا شيخ… خلتونى أشترى نسختين من الجرنان واحدة لى وواحدة لابنى، ولما سألته عن السبب قال لى : كل واحد فينا عاوز يحتفظ بصورة في فى عبده لنفسه.

هذا القارئ عبر ببساطة عما يوحى به عموم القراء للصحفيين، وهو ما يعنى أن ذوق القراء فى حالات كثيرة فاسد تماما، وهو حتما يؤثر على ذوق الصحفيين، الذين يعملون ليل نهار عند هذا القارئ وحده، أو هكذا يجب.

احتياج القارئ وحده ليس السبب الأساسى لنشر فضائح المجتمع وإظهار عوراته من خلال التركيز على وجوه سفهه فى الإنفاق والأخلاق، ولكن هناك ما هو أهم.

تعلم الصحافة ان هذا المجتمع منافق بما لا يحتمله أحد، وترى أن من بين مهامها كشفه وتعريته.

فى الأربعينات قرر مصطفى أمين أن يضع المجتمع الراقى أمام نفسه، اختار بنتا فقيرة تعمل فى كوافير بمنطقة شعبية، صنع منها سيدة مجتمع، أدخلها الى المنطقة المغلقة لهذا المجتمع، منحها اسما جديدا، ونسبا جديدا لأحد الباشوات، تقرب منها الجميع، بعضهم عرض عليها الزواج، والبعض الآخر عرض أشياء أخرى، وبعد ثلاثة أسابيع نشر مصطفى أمين القصة كاملة مصحوبة بصور الفتاة وهى تتجول فى أروقة المجتمع الراقى، وصورتها وهى فقيرة بملابس متواضعة، غضب المجتمع، وبدلا من أن يحاسب نفسه على نفاقه، لعن مصطفى أمين وخاض فى عرض الصحافة التى يقدمها.

شئ من هذا فعله الكاتب الساخر الراحل أحمد رجب، كان يعشق المسرح الكلاسيكى ولا يستسيغ الأشكال الجديدة  التى أطلقوا عليها مسرح العبث، وبدلا من أن يهاجم هذا المسرح، فكر فى التدليل على وجهة نظره بطريقة عملية.

أعطى أحمد رجب مجلة الكواكب مسرحية وقال إنها مترجمة عن الكاتب المسرحى العالمى دورينمات بعنوان ” الهواء الأسود” والمسرحية لا رابط بين شخصياتها التى تنظر إلى ساعة معلقة على حائط وتتحدث كلاما مبتورا وغامضا يحتمل أكثر من تأويل.

دعت المجلة عددا من كبار النقاد ليتناولوا النص العالمى بالنقد والتحليل فأشاد الجميع به، وكان من بين هؤلاء د. عبدالقادر القط ورجاء النقاش وعبدالفتاح البارودى، ثم ظهر أحمد رجب فى النهاية ليعلن أنه مؤلف المسرحية التى وصفها البعض بالعالمية، ووصفها البعض الآخر بأنها نقلة فى فن المسرح، بينما أكد لهم أنه لم يستغرق فى كتابتها أكثر من ساعة زمن.

يمكن أن تعتبر أحمد رجب عبقريا، لأنه كشف زيف عددا من النقاد الذين يتحدثون عن مسرح العبث بحيلة ذكية، لكن اللعنة كانت من نصيبه هو، فلا أحد يريد أن يرى حقيقته العارية ماثلة أمامه.

في الخمسينات أراد احسان عبد القدوس أن يجدد قليلا فى أبواب مجلته روز اليوسف، فاستحدث بابا اسمه ” أين يسهر الناس؟”… اختار له محررا ليس من أبناء المدينة، انحاز لأن يكون قادما من الفلاحين، حتى يكون انبهاره بما يحدث كاملا، فينقل للناس بحرارة وحماس ما يراه أمامه فى مجتمعات يعتقد بعض المصريين أنها ليست موجودة بينهم من الأساس.

ساق القدر الكاتب الكبير صلاح حافظ فى طريق احسان، كلفه بالمهمة، لكن أعصاب صلاح لم تتحمل ما رآها، فاعتذر، لكن احسان تمسك به، إعجابا بأسلوبه فى الكتابة، وجاء له باثنين من أبناء الذوات، كانا يحضران هذه الحفلات، ينقلان ما يدور فيها لصلاح، وهو يتولى الصياغة.

ما الذى كان يريده احسان عبد القدوس من وراء ذلك؟

ببساطة شديدة كان يريد كشف فئة فى المجتمع تنفق على ملذاتها ما لا يتصوره أحد، فى الوقت الذى لا يجد فيه مواطنون آخرون ما يشترون به المجلة التى كانت تباع وقتها بقروش قليلة.

شئ من هذا أثبته الدكتور جلال أمين فى كتابه الذى لا يزال مهما” ماذا حدث للمصريين؟”… فقد اعتبر صفحات المجتمع فى الصحف تلك التى كشفت أسرار وكواليس المجتمع المخملى، سببا فى تثوير المجتمع، وبعث الغضب فى دماءه، اذ كيف يتصور أحد أن يكلف أحدهم حفل زفاف ما يزيد على ٥٠ مليون جنيه، فى الوقت الذى لا يجد فيه شاب ما يشترى به شقة متواضعة فى حى شعبى ليتزوج فيها.

تسعى الصحافة إذن من وراء كشفها لفضائح فئة معينة الى خلق مجتمع أكثر مساواة واستقرارا، لكن هؤلاء الذين تتصدى لهم الصحف، يفسرون ما يحدث على أنه حقد وغل يحمله الصحفيون الفقراء تجاه الأغنياء، ولذلك لا تتعجب عندما تجد الأغنياء فى هذا المجتمع وفى مجتمعات أخرى يحلمون باليوم الذى تختفى فيه الصحف.

من بين ما استقر عليه المجتمع المصرى أن التواطؤ وسيلة مهمة من وسائل الحفاظ على أمنه واستقراره، فالجميع يتواطأون مع بعضهم البعض لمعرفتهم أنهم فاسدون، الفساد ليس الا منظومة يحمى أبناؤها بعضهم بعضا، ولذلك عندما تتجرأ الصحافة وتكشف الفساد، تجد الجميع يلعنها ويجتهد فى عقابها، بما يرسل بدرس للآخرين مفاده من يخترق سيحترق.

عندما تجرأت جريدة النبأ وكشفت فضيحة راهب دير المحرق، تكالب عليها الجميع وكان من بينهم صحفيون كبار، وكان القرار أن تقصف رقبة الجريدة، وليس أقلام من يكتبون فيها.

كل ما فعلته الجريدة أنها نشرت جريمة أخلاقية لراهب يستغل المكان المقدس لإقامة علاقات محرمة يستغل فيها سلطته الروحية، نشرت صورا من واقع فيديو حصلت عليه، حاولت أن توثق ما لديها، بالغت بعض الشئ فى إظهار ما لديها، قد يكون هذا حدث، لكنها فى النهاية لم تكن هى من ارتكبت الجريمة، هى فقط كشفتها، لكن لم يستقر فؤاد المجتمع الا بعد إغلاق الجريدة وسجن صاحبها ممدوح مهران، وكأنه من ذهب بالنساء الى المذبح.

فى عصر مبارك كان الوزير محمد ابراهيم سليمان هو رمز القوة المطلقة، لم يكن أحد يستطيع الاقتراب منه، زوجة الرئيس كانت تقول أنه ابنها الثالث، كسر عين مسئولين كبار فى الدولة بعطاياه من الأراضي والفيلات، التى لم تكن من بيت السيد والده، تصدت له الصحف لأكثر من عشر سنوات، كانت المستندات التى لا تقبل شكا تدينه، لكن النظام لم يقترب منه، وذهب هو بالصحفيين الى النيابات والمحاكم _ كنت واحدا منهم _ دخل بعضنا السجن، وظل هو يستمتع بنفوذه، ولم يسقط بشكل كامل الا بعد أن قامت الثورة التى حسمت قضايا كثيرة كانت الصحافة قد أثارتها فى عهد مبارك، ولم تتأخر عن كشفها فى عز سلطته وعنفوانه.

المجتمع يكره الصحافة لأنها تضعه أمام نفسه فى مرآة مكبرة، وهو لا يريد أن يرى عيوبه، ولا يحب من يذكره بها، ولذلك فهو لا يعمل من أجل كسر الصحف فقط، ولكن يدعو على من يعملون فيها بالفضيحة، وكأنه ينتقم منه، رغم أنهم لا يفعلون أكثر من أداء عملهم على نحو جيد.

نرشح لك : محمد الباز يكتب: لماذا يكرهوننا ؟ (1)