“ثانية واحدة هاروح انتحر وارجعلك”، جملة ساخرة اعتاد صديق ترديدها كلما صدمتنا إحدى القرارات أو الأزمات فى هذ البلد، الذي لا تنتهي قراراته ولا أزماته ولا صدماته.
أصبحت هذه الجملة أحد الثوابت اليومية بالنسبة لنا، بل أصبحت تتكرر عدة مرات في اليوم الواحد، حتى أصبح هذا الصديق ينتحر مجازا عدة مرات على مدار 24 ساعة، وعندما ضقت بانتحاره المتكرر، طالبته بالانتحار بعيدا، خيرني بين أن أحتمل هذه الانتحارات المتعددة، أو أساعده فى البحث عن فرصة للهجرة.
هكذا اعتدنا مواجهة إحبطاتنا بالسخرية، ورغم أن الكلمات تبدو ضاحكة، إلا أنها تعكس قسوة ما نمر به.
زميل آخر واجه الاحباطات المتكررة، بأن تمنى أن يصبح “فرخة بيضاء”، وذلك عقب الانتكاسة التي واجهتها وحدة الصف الصحفي، في أزمة النقابة، عندما تراجع العديد من رؤساء تحرير الصحف عن دعم الموقف القانوني لنقابتهم أمام تجاوزات “الداخلية”.
وعلى صفحته الشخصية بموقع “فيسبوك”، كتب الزميل “يا ريتني كنت فرخة بيضا، علشان محسش بشماتة أماني الخياط فى الصحفيين “، ورغم قسوة الجملة، إلا أننا تبادلنا “القلش” بلغتنا الشبابية، ففي هذه اللحظة التي نشعر فيها بالهزيمة أمام شماتة الشاويش أماني، تمنينا جميعا أن نصبح فراخ بيضاء.
وأعرب زميل آخر عن رغبته في التحول إلى نملة، وله وجهة نظره لتفسير هذا الاختيار الدقيق، فالنملة كائن دؤوب ومنظم ويعمل باجتهاد، دون أن يصاب بالاكتئاب أو الاحباط.
ويرى آخر أن السمكة هي الاختيار الأفضل، ويعزز وجهة نظره بأن السمكة ليست لديها ذاكرة، فهي تدور في الماء دون كلل أو ملل، ولا تتذكر أي محاولات لاصطيادها، ولا أي كمائن ومصايد أفلتت منها، باختصار السمكة لا تعاني نفسيا، لأنها لا تتذكر من الأساس، والذكريات أحد المصادر الرئيسية للاكتئاب.
أما صديقى المثقف، فقرر ألا ينخرط في أي نقاش يخص الشأن العام، مكتفيا بالتعليق ببيت شعري “لا أزودُ الطيرَ عن شجرٍ.. قد بلوتُ المرَّ من ثمره”.
باختصار، لم نعد نتحمل سلسلة الأزمات اللامتناهية، وسوء إدارتها، من “تيران وصنافير” إلى زيادة أسعار الدواء، وتهديدات رئيس البرلمان للنواب بسبب مناقشتهم السياسة النقدية للدولة، والقبض على أعضاء فرقة شبابية ساخرة، وسجن شباب في عمر الزهور لتعبيرهم عن رأيهم، ومن الطائرة الروسية إلى الطائرة المخطوفة إلى الطائرة المنكوبة، ومن أزمة المحامين إلى أزمات الأطباء والصحفيين.
أرى هنا من يلتقط كلماتي ليتهمني بنشر الاحباط، فيقول إن البلد تسير إلى الأمام، وإن الإنجازات متواصلة، والمشروعات تجري على قدم وساق، وتتم في وقت قياسي، وإن الحكومة في سباق مع الزمن، وإن قاطرة التنمية تتحرك بلا توقف.
أرى من يتساءل باستنكار عما يريد هذا الشباب الجاحد، إسكان اجتماعى بأسعار تنافسية، وتيسرات لقروض الشباب بفائدة غير مسبوقة، وتخصيص مساحات من الأراضي ضمن مشروع استصلاح المليون ونصف المليون فدان.
ونقسم نحن الشباب الجاحد،بأغلظ الأيمان أننا لا ننكر على الرئيس جهدا في حل مشاكل الشباب، وتوفير سبل المعيشة الكريمة له، لكن أي دولة تسير على قدمين، إحداهما قدم التنمية، والأخرى قدم الإدارة السياسية، والأخيرة تشمل حرية التعبير عن الرأي، وإدارة الأزمات، والتواصل مع القوى السياسية، وإذا سارت الدولة على واحدة دون الأخرى، فأنها تصبح عرجاء، ومختلة التوزان.
“إذا سلبنا حرية الرأى والتعبير نصير مثل الدابة البكماء التى تقاد إلى المسلخ”، هكذا لخص جورج واشنطن، أول رئيس للولايات المتحدة، حال الدول التى تسعى إلى التقدم.. أما أنا وأصدقائي، فوضعنا “التاتش المصري”، وطرحنا عددا آخر من الخيارات خلاف الدواب، فهناك النمل والسمك والفراخ.
لا يمكن التعامل مع تلك الكلمات باستخفاف، أو اعتبارها شكلا من أشكال خفة الدم، دون البحث عما تحمله ورائها من معان ودلالات حزينة، فهي تعكس حالة من الاحباط العام، ورغبة في الانسحاب العام، والهروب من الواقع، وهي حالة حذر منها الرئيس فى إحدى خطاباته، عندما استخدم وصف “حالة الاحباط العام”.
والغريب أنه رغم تحذيرات رأس الدولة من “الاحباط العام”، إلا أن أحد الأسباب الرئيسية في انتشار هذه الحالة، هي سوء إدارة الدولة للأزمات، فهل ينتبه أحد لهذا الخطر؟!!، قبل أن نتحول إلى شعب من الأسماك أو الفراخ أو النمل، وحتى لا نعتاد الانتحار يوميا.
نرشح :