قال لي بلهجة تكسوها الخجل : معلش مش عارف الطريق ، ممكن حضرتك تدلني ؟
العثور على تاكسي يلتزم بتشغيل العداد ، ومستعد للذهاب معك إلى آخر الدنيا أصعب من الفوز بقرص ريفو ، اسمح لي أن أقدم لك محمد ، شاب يعمل على تاكسي أبيض منذ ثلاث سنوات ، ولكن ليست هذه القصة .
هاديء ، متحفظ ، يسأل من أين نسير؟ هل الطريق يناسبك ؟ خوفة بدا واضحا من التورط في تغريمي أجرة مرتفعة بسبب زحمة الطريق في ظهيرة أربعاء ساخن ، انهيت ثالث مكاملة تليفونية خلال الطريق فاعتذر لي قائلا : أعذرني اني بسأل حضرتك كتير ، بس أنا اصلا طالب ورخصتي خاصة وبخاف من غلاسة أمناء الشرطة .
محمد طالب في الفرقة الثالثة بكلية هندسة جامعة القاهرة ، اختار قسم الاليكترونيات لأنه يحب التكنولوجيا ، يحلم بأن يساهم في صنع كمبيوتر أو تليفون أو قمر صناعي يحمل جملة “صنع في مصر” ، يعمل محمد على التاكسي منذ ثلاث سنوات : من سنة أولى جامعة وأنا بشتغل على التاكسي عشان أجمع مصاريف الكورسات .
محمد مثل أغلب المصريين تعلم في مدارس حكومية لم توفر له فرصة اتقان لغة أجنبية ، وربما حتى اللغة العربية ، يدفع كل شهر ألف جنيها ثمنا لكورس اللغة الإنجليزية وما يتبقى من أجره يدبر به نفقات حياته ، يعيش محمد وسط أسرة بسيطة الحال ، لايمتلك رفاهية المصروف وبالتالي فالعمل من أجل استكمال تعليمة أصبح فرضا لا سُنة .
لا يشاهد محمد التليفزيون منذ سنوات ، لا يعرف ريهام سعيد ولا جابر القرموطي ولا ينبهر بعويل وصراخ أحمد موسى ، ” معنديش وقت والله ، التليفزيون أصلا مفيهوش حاجة تتشاف ، أحيانا بقعد نص ساعة على الفيس بوك ، بس أغلب وقتي مابين الشغل والمذاكرة ” .
متى يعمل ومتى يذهب للجامعة وكيف يذاكر ؟ يعمل محمد ست ساعات يوميا ، ينهي جامعته صباحا ويعمل على التاكسي من الواحدة ظهرا وحتى السابعة مساء ، وصاحب التاكسي يملك ضميرا حيا يراعي به أوقات الكورس والمذاكرة .
رحلتي مع محمد لم تتجاوز نصف ساعة ، ولكنها كانت كفيلة بتغيير تفاصيل يومي بالكامل ، أن تخرج من وسيلة المواصلات وتصل مكتبك مشحونا بطاقة إيجابية تكفي لأعوام قادمة ، تتيقن أن في هذا الوطن أمل يسكن في وجوه صامته ، راضية ، لا تطل على الشاشات ولاتتاجر بألامنا وأحلامنا ، في أيامنا ألف حكاية تشبه محمد ، هؤلاء من يضمنون بقاء هذا البلد على قيد الحياة ، أنتظر صديقي محمد بعد أعوام عالما أو مهندسا كبيرا في شركة اليكترونيات عملاقة تصبغ الأحلام بلون الحقيقة .