محمد الباز يكتب: كلنا كلاب يا صديقى... بعضنا ينبح وبعضنا يحرس (لماذا يكرهوننا 3)

تظل العلاقة بين الصحفيين والسلطة في مصر، واحدة من العلاقات المرهقة، مساحتها الواسعة تختلط فيها الثقة بالشك، الصدق بالكذب، اليقين بالمراوغة، الأمانة بالخيانة، المواجهة بالخضوع، الانتصار بالانكسار، الحب بالكراهية، الإخلاص بالمؤامرة، التجرد بالمنفعة، المدح بالقدح، الصراحة بالنفاق.. ذلك لأن من يتحركون في هذه المساحة يصنعون الحياة ويوجهونها إلى الوجهة التي يريدون.

يشغلني هنا شيء من تأثير هذه العلاقة على الحال الذي وصلت إليه الصحافة في مصر؛ مهنة أصبحت ملعونة، مطاردة، لا أحد يرحب بها ولا يفسح لها الطريق.

وليس بعيدا عن الحقيقة إذا قلت لك أن علاقة الصحافة بالسلطة تقف سببا قويا وواضحا في كراهية الناس للصحفيين.

فمن يؤيدون النظام الآن ينظرون إلى كل كلمة نقد يكتبها صحفي في حق النظام -حتى لو كانت صحيحة- باعتبارها مؤامرة وخيانة ومحاولة لهدم الدولة.. وإذا كتب هذا الصحفي نفسه، كلمة مدح للنظام، خرج من يتهمه بالنفاق والكذب والتدليس والخداع والتضليل.

في مصر لا يسمح لك أحد بأن يقف في المنطقة الرمادية، إذا فعلت ذلك اتهموك بالرقص على السلم وإمساك العصا من المنتصف، لابد من تصنيف لونك حتى يتم التعامل معك، فإما أن تكون أبيضا، وإما أن تكون أسودا، والحكم هنا نسبي، فإذا قلت ما يعجب الناس فأنت أبيض ووطني وحكيم، وإذا قلت ما يغضبهم فأنت أسود وحاقد ومتآمر، والمضحك أنه يمكنك أن تتقلب بين الأبيض والأسود بالنسبة لنفس الأشخاص، فالمعيار عندهم “هل تقول ما يوافق هواهم أم ما يخالفه؟”.

في أكاديمية الشروق، حضرت ندوة مع طلاب كلية الإعلام بها، بدعوة كريمة من الدكتور محمد شومان عندما كان عميداً لها، ووقفت طالبة وقالت في غضب شديد: “أنا مش عاوزة أشتغل صحفية، الصحفيين كلهم منافقين، كلهم بيخالفوا ضميرهم”.

التقطت منها طرف الخيط بهدوء لا أتصنعه، قلت لها: “أنتِ غاضبة في الحقيقة لأن الصحفي لا يخالف ضميره، ولكن لأنه يخالف ضميرك أنت، فأنت تجلسين أمام المذيع تريدين منه أن يقول ما تعتقدين أنه صحيح، وعندما يقول ما يزعجك تتهمينه بأنه يخالف ضميره، وهو ما يغضبك كل هذا الغضب”.

يعتقد متابعو الإعلام في مصر مثلا أن أحمد موسى ومصطفى بكري ومن يسير سيرهما -وأنا هنا لا أدافع عنهما- يخالفان ضميرهما عندما ينحازان إلى النظام أو يدافعان عنه، رغم أنهما فعليا لا يغادران ضميرهما، لأنهما يعتقدان أن النظام على حق، ولذا فهما يدافعان عنه ويبرران له ما يفعله، بل ويهاجمان خصومه بضراوة، فهل مطلوب منهما مخالفة ضميرهما، وقول ما يعجب الناس، حتى لو كانا لا يتفقان معه، لمجرد أن ينالا الرضا؟

المسألة معقدة إذن.

لكن، قليل من الصبر يُمكننا من أن نفهم سويا ما يحدث على السطح وفي الكواليس أيضا.

عندما ظهرت الصحافة في مصر، كانت خارجة بالكاد من معطف السلطة، لم تكن تعبيرا عن احتياج مجتمعي، وعليه ترى السلطة – أى سلطة – أن الصحافة لابد أن تكون “لسانها المعبر عنها”، ومن يخالف ذلك يصبح خصما لهذه السلطة ومناوئا لها، وتجري محاولات الانتقام منه، وأشكال الانتقام كثيرة، بداية من المضايقات بالقوانين التي تبدو متعسفة وعقابية، مرورا بالتضييقات المالية عبر الضغط بورقة الإعلانات، من الدولة ورجال الأعمال، وصولا إلى التنكيل المباشر عبر الاعتداء البدني، وما عبد الحليم قنديل منا ببعيد.

كان عبد الحليم معارضا شرسا لنظام مبارك، تجاوز حدود النقد إلى السب والشتم والإهانة لمبارك وزوجته وابنه الذي كان يجهز نفسه لحكم مصر، في ليلة رمضانية غير سعيدة، خطفوه من أمام منزله، ضربوه بعنف، جردوه من ملابسه، وتركوه يسير في الصحراء عاريا، ولولا أن جنديا في كمين على الطريق أعطاه ما يستر به نفسه، لوصل إلى بيته في الهرم كما ولدته أمه.

لا تريد السلطة في مصر من الصحفيين إلا أن يكونوا رجالا لها إذا، من يوافقها تجعل منه كلب حراسة، يقف على بابها، يرد عنها هجمات الخصوم والأعداء، ومن يخرج عن خطها، تحوله إلى كلب نباح، لا تصادر منه حق الهوهوة، إذا رأى ما لا يعجبه، لأنه لا يستطيع أن يفعل أكثر من النباح، في أنظمة متتالية، أخذت من قول السلطة الأكبر “معاوية بن أبي سفيان” شعارا لها: “إننا لا نحول بين الناس وبين ألسنتهم، ما لم يحولوا بيننا وبين ملكنا”.

على طول تاريخ الصحافة المصرية وعرضه جرت عملية حماية لكلاب الحراسة، وهي حماية لم تخل من إفساد، فالسلطة كانت تمنح هؤلاء النفوذ بتعيينهم في مجلس الشورى لتغطيتها بالحصانة، حتى لا يقطع طريقهم أحد، وتمنحهم المال من خلال العطايا والهبات والمنح، وكلما تعاظم المال، اجتهد كلب الحراسة في حماية صاحبه.

عندما يصل صحفي السلطة إلى هذه المرحلة، لا يقبل منه صاحب السلطان موقفا وسطا، لا يريد أن يسمع منه كلمة نقد واحدة، حتى لو كانت كلمة من أجل الصالح العام، يريده أن ينفذ تعليماته بالضبط، لا يحيد عنها ولا ينحرف.

في واحدة من جلساته سأل مبارك خلصاءه: “تعرفوا أنا ليه بحب سمير رجب أكتر من ابراهيم نافع وإبراهيم سعدة ومكرم محمد أحمد؟”.. لم يتحدث أحد، لأن مبارك لم يكن يطلب إجابة، سأل ليجيب هو.

قال لهم: “سعدة ونافع ومكرم لما يهاجموا واحد زي فؤاد سراج الدين يبدأوا كلامهم بـ “مع احترامنا الشديد لتاريخه ودوره ومكانته”، إنما هو ابن كيت وكيت، لكن سمير بيدخل في الموضوع على طول، بيقول له إنت ابن كيت على طول، وهو ده الشغل المظبوط”.

قد تسمح السلطة أحيانا بوقوف أحدهم في منطقة رمادية، لكنها تتركه وحده، لا تضره ولا تفيده، حدث هذا مع الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين، وشى به بعض رجال عبد الناصر بعد أن ضاقوا منه، أرادوا أن يصلوا به إلى السجن، لكن عبد الناصر قال لهم: سيبوه هو دماغه كده متركبة شمال، بيقول اللي هو شايفه، بهاء مبيعملش لصالح حد.

وكما أفسدت السلطة الصحفيين، أفسد الصحفيون السلطة، جعلوا من رجالها آلهة، دافعوا عنهم، وبرروا لهم قراراتهم، تحولوا في محرابهم إلى كهنة، ينشرون البخور من حولهم، ولما وضعوا أقدامهم على رقاب البلد، لم ينطقوا، لأن الحساب مدفوع مقدما.

النتيجة في النهاية، وهي تعبر عن حقيقة مفجعة لكنها الحقيقة، أننا في نظر السلطة جميعا كلاب، أدركت ذلك أو حولتنا لذلك لا فرق، المهم أنها بدأت مهمة تثمين كلاب الحراسة، وحصار كلاب النباح، وكانت النتيجة أنها ضربت مصداقيتنا في مقتل.

كلب الحراسة يبالغ في التعبير عن ولائه، لأن الولاء له ثمن كبير، يعمل جاهدا من أجل الحفاظ عليه، ولا مانع عنده من أن يفعل كل شيء من أجل أن يبقى في دائرة الضوء، والكلب النباح يبالغ في التعبير عن غضبه، ليؤكد للجميع أنه مناضل كبير، تخشاه السلطة وتعمل له ألف حساب، وفي حمى المبالغة يسقط الجميع في نظر الناس.

شيء من هذا حدث مؤخرا، وهو يحدث طوال الوقت، لأنه فعليا لا جديد على هذه الأرض أبدا.

هناك من يكره صحفيين لأنهم انحازوا لمشروع ٣٠ يونيو، هؤلاء متهمون بأنهم صمتوا على ما جرى للإخوان، ويصمتون الآن على ما يجرى لكل من يرفع صوته بالمعارضة، بل يساعدون السلطة في التنكيل بمعارضيها، وهناك من يكره صحفيين لأنهم وقفوا إلى جوار الإخوان وحاولوا الدفاع عن معارضي النظام.. والحصاد في النهاية، أن الجميع أصبح مكروها وملعونا، وبعد ذلك، ما أسهل أن يتم تحميل الصحفيين مسئولية كل الاضطراب الذي نعيشه الآن.. والنتيجة في النهاية؛ أننا أصبحنا جميعا مكروهين.

نرشح لك

محمد الباز يكتب: الدعاء على الصحفيين بالفضيحة ؟ (لماذا يكرهوننا 2)

محمد الباز يكتب: لماذا يكرهوننا ؟ (1)