“تشبهينني كثيرا.. لمعة عينيكِ.. ضحكتك.. قوتك الكامنة خلف وجه ملائكي.. ربما لو أنجبت بنتا كانت ستشبهك كثيرا” بتلك الكلمات أمطرتني حبا ودفئا، منذ ما يقرب عشرة أعوام كنت في عامي الجامعي الأول، يومها ذهبت لأقدم طلب تدريب بأحد الوكالات الصحفية، ووجدتها تجلس مع صحفي يُجري معها حوارا لنشره في الوكالة، كنت أقف في أحد أركان الغرفة أنظر لها بفخر ورهبة، وكانت هي ترمقني بنظرات وابتسامات رقيقة مثلها من حين لآخر، حتى نادتني قائلة “أيتها الصغيرة اقتربي لكي أرى جيدا النور المنبعث من روحك وينير وجهك كنجم ثائر في سماء ديسمبر”.
أخبرتها حينها أنني أحب الكتابة لأنها تشعرني بأمان ودفء لا أجدهما بين البشر، ابتسمت لتكشف عن ربيع روحها، وربتت على كتفي وقالت “أحب الكتابة لأن الموت القريب والواقع يشعرني بالوحشة وأحب الكتابة لأن الحياة تستوقفني، تدهشني، تشغلني، تستوعبني، تربكني، وتخيفني، وأنا مولعة بها”، وجعلتني أوعدها أنني سأكتب عنها يوما ما، ربما لن تكون موجودة في الدنيا حينها ولكنها ستقرأه من السماء وسترسل لي سلاما برائحة الجنة ووردة، كان موعدنا أمس لأكتب لها ولكنني لظروف ما تخلفت عن الموعد، ولكنها لم تتخلف عن وعدها.
وجدت جملتها الجميلة “بعث الله من يحتضنك في قلبه كوطن صغير بعيدا عن تفاهة هذا العالم والسوء الذي يسكنه في كل زاوية”، على ورقة بمقعد المترو بعد أن قررت تغير خطة يومي وبدلاً من الذهاب إلى المنزل توجهت إلى الأوبرا، ربما لتلك المقولة سحر عجيب يملأ قلبي بالطمأنينة وروحي بالسكينة وهي تعلم ذلك، كما أرسلت لي وردة بيضاء تشبه قلبها، كان هناك حفلاً بالأوبرا ويوزعون به الورود على الموجودين، تمنيت أن أحصل على واحدة ولكنني لا أطلب الورد أبدا وأؤمن أنه يمنح دون طلب، حتى قالت لي صديقتي تحت قدميكِ وردة، فانحنيت وأمسكت بها ونظرت إلى السماء لكي أرد السلام على من ألقى السلام.
كلما كدت أسقط من شدة التعب تذكرت كلامها “هناك احتمال آخر لتتويج مسعانا بغير الهزيمة ما دمنا قرّرنا أننا لن نموت قبل أن نحاول أن نحيا”، وتشد يدي وهي تطالبني بالمثابرة، وتخبرني أنها تعلم أن “الحزن قوة جاذبة تشد لأسفل، تسحب الرأس والكتفين، كأن الجسم في حزنه يمسي واهناً خفيفاً فتستقوي الجاذبية عليه وتستشرس، والإحباط واليأس شديد الخطورة، والإصرار على المواصلة، والأمل العنيد هو سلاحنا في معركتنا التي نخوضها لتحقيق أهداف الثورة”، الثورة.. كانت تحكي رضوى عاشور أنها أثناء ثورة يناير كانت في الولايات المتحدة الأمريكية لاستئصال ورم من رأسها وعندما أفاقت من التخدير سألت ابنها وزوجها “همَ ضربوا العيال؟”، وكيف لا تسأل عن عيالها التي زرعت في قلوبهم روح الثورة والنضال، فهي من ذهبت على قدميها إلى قصر عابدين لتطالب بمحاكمة وزير الداخلية، ورغم مرضها الشديد كانت في ميدان التحرير كل يوم، أمًا تحتضن الجميع وقت ثورة يناير.
المناضلة.. الأم.. الروائية.. يا رضوى أنتِ الوطن، اليوم أستطيع أن أخبرك أنكِ صدقتي يوم قُلتي لي أنني أُشبهك، اليوم أفي بوعدي وأكتب لكِ للمرة الأولى وأعدك أنها ليست الأخيرة، ستبقين في قلبي رواية قابلة لأن تروى لا تنتهي، فكلماتك ليست كتبا على رف مكتبتي ولا كتابات على هوامش كتبي ودفاتري، كلماتك نور يضيء لي الطريق، يا امرأة تربط عمرها بالتاريخ كما تجدل ضفائرها وكل عقدة تحمل الكثير والكثير، عيناكي من علمتني أن أقع وأحزن ولكن يجب في النهاية أن أنتصر، جعلتيني أؤمن بالإشارات والعلامات التي قد تغير مصائرنا، أخبرتيني أنني شخص كلما غض طرفه عن ما يحبه تشبث به أكثر لأن روحي هي التي تتعلق.
أؤمن مثلك أن وجود المحبوب وَلو في البُعد هو سندٌ هائلٌ لي، وأنه القادر على أن يخرج الحزن من أقرب بوابة يائسة، ويستبدله بابتسامتي التي تذهب حزن الرائي، فتكون في عينيه؛ ابتسامتي رأي، وموضع خطوتي رأي، وعناد قلبي رأي، اليوم أدعوا الله أن يرزقني حبا كحبك لمريد البرغوثي.. فبعد أن يمر وقت طويل من الزمن وتشرف الروح على الراحة وبدء رحلتها إلى المكان الأصدق بعد أن تتم ما أرسلها الله من اجله في تلك الحياة، أمسك بيده وأقول له كما قُلتي أنتِ: “غريب أن أبقى محتفظة بنفس النظرة إلى شخص ما طوال ثلاثين عاماً، أن يمضي الزمن وتمر السنوات وتتبدل المشاهد وتبقى صورته كما قرّت في نفسي في لقاءاتنا الأولى”، لا تخافي على قلبي يا رضوى فقد تركتي لي كلماتك تحتضنه في لحظات انكساره.. أؤمن أنه لا وحشة في قبر رضوى، لا وحشة في قبور من يضيئون لنا الحياة، لكِ مني سلام ووردة.