محمد مصطفى أبو شامة يكتب: قصاقيص على بيانولا

(1)

فيض حروف لا يتوقف.. وقلب يُنعِشه الاشتهاء..
بعدد الأحلام التي لم تتحقق.. عشنا أقل مما هو مقدَّر..
وبحساب السماء: (الصحة) تاج على رؤوس الأغبياء
قالها ذو الشعر الفضي.. ومضى
ودقات عكازه على الأرض مع (تكات) عقارب الليل
تعزف لحن (الصبا) الأخير الذي جمع كل قصص عشقي للنساء
التفتُّ بنصف وجهٍ ورمَقَني بنوره وضحك حتى ذاب وجوده
قطع الكروان الصمت الساكن في الأعماق.. ليعلن مولد (الربيع)..
مبشِّرًا بطريق لا ينتهي وخلودٍ بعد شقاء.

(2)

زارني الليلة صديقي عباس، زميلي في المدرسة التوفيقية الثانوية (بنين)..
وأشعل سيجارة (كليوباترا) وجلس يحكي عن (تلك الأيام)..
* يوم فشلنا في القفز من فوق سور المدرسة لنشتري (ساندويتشات الفول اللذيذة) من المطعم الكبير.. وعدنا نجر أذيال الخيبة لفصل (المتفوقين) وسط ضحك الزملاء على خيبتنا القوية..
فقررنا بعدها أن نرضى بـ (ساندويتشات البيت الكئيبة).
* ويوم حاولنا أن نعبِّر عن رأينا (لأول وآخر مرة) ونحتج على اعتقال زميلنا رئيس اتحاد الطلاب.. خرج علينا (مسيو) زكريا وكيل المدرسة القصير، ولسعنا (كام خرزانة)، أقنعتنا بالبعد عن السياسة لسنوات كثيرة.
وأيام أخرى واجهنا فيها أنا وعباس محنة العجز والفشل في تخطي ما كنا نظنه حلمًا صعبًا، وكان عباس يتقبل الأمر بابتسامة متوعدة.. وهو يردد عبارته الشهيرة: (………) ويتبعها بحركة موحية من ذراعه، ثم يختتم قائلا: (يا حمادة بكره نكبر ونسوي الهوايل)..
لقد كبرنا يا عباس.. «وسوتنا الهوايل»!!

(3)

كنت واقفًا في (المعصرة) أنتظر (المترو) ليأخذني إلى (السيدة زينب)..
والسؤال يطاردني كأني مجنون هارب من (العباسية)..
لم أجد عندي رغبة في البحث أو التفكير..
لأني أدرك سذاجة السؤال.. وبساطة الإجابة.
مر القطار أمامي ولم يقف..
فقط ودَّعَني وهو يرسم (علامة النصر) بالدخان المتصاعد من ماكينته.
عندما نظرت إلى الرصيف الآخر وجدتُها تجمع حقائبها المبعثرة في غضب.
ولمحتُ بعض ثيابي بين أشيائها.
ناديتُ ولم تُسعِفْني الذاكرة باسمها..
فخرجت (يااااا) طويلة مثل صافرة القطار الذي رحل.
لم تشعر حبيبتي بوجودي وهي تبتعد مع حقائبنا..
استوقفتني (يافطة) المحطة التي مرت من أمامها بحملها الثقيل..
مرسوم عليها بخط النسخ الجميل (سيدي جابر)..
وأسفلها بخط اليد المشوَّه وبلون أخضر كُتبت عبارة قصيرة لم تكتمل (تحيا …).

(4)

قالت لي: أموت وأشوف اسمي (بنط كبير) في أهم صفحة بـ(الجورنال)..
قلت لها بتلقائية أقرب إلى الهزل: الاسم بنط كبير، يبقى في النعي والتعازي بصفحة الوفيات.
نظرت إليّ نظرة اختطفتني فوق أمواجها الزرقاء..
وقبل أن أغرق، أحرقتني بقبلة واختفت وسط الزحام.
شاهدتها بعد سنوات تجلس في (المول الشهير) تختفي وراء العباءة السوداء، وحيدة مع قهوتها تفتش في صحيفتنا القديمة.. صدمها وجودي أمامها، رغم أن اسمي كان (مانشيت) بالبنط الكبير في الصفحة الأولى من الصحيفة.
أزحت خمارها.. لم تمانع
جلست جوارها.. لم تمانع
قرأت فنجانها.. لم تمانع
فقط طلبت بكبرياء أن أكتب اسمها..
وأحقق حلمها.. فلم أمانع!

(5)

جلست تبكي وجسدها المضيء ينتفض مرتعشًا وهي تسرع في تجفيف شعرها البني بدرجة (الشيكولاتة)، وصوت نحيبها يشوِّش قدرتي ويمنعني من اتخاذ أي قرار.
إن ما طلَبَتْه مني كان قمة الجنون..
طلبت أن أقتلها بأي طريقة أراها مناسبة، وأن أتقبل روحها هدية في عيد ميلادي.
هدية مقبولة.. ومغرية.
لكن ما سبب البكاء؟!
عندما حسمت أمرها وقررت أن تموت غارقة في (البانيو).. وبدأت التنفيذ..
صرخت غير مصدقة، وهي تجري وتتهمني بأني لا أحبها وأريد قتلها.
إذن فيمَ التفكير.. ولماذا الحيرة؟!
لقد وضعتني صرختها ثم بكاؤها.. بين اختيارين..
أما أن أقبل هديتها وإما أن أقتلها.
لقد جننت أنهما نفس الشيء !!
تخيلت معها أنه يمكن أن اختار في يوم ذكرى ميلادي.
بينما الحقيقة الدائمة.. هي مَن تختار.

(6)

تذكرت صورتها القديمة قبل 20 عامًا، فتاتي رائعة الجمال التي عشقتها حتى الضياع، لم أستطع أن أمنع ارتباكي وأنا أصافحها عندما جمعتتنا صدفة (اللقاء الثاني) بعد سنوات الفراق.
تنبهت إلى أني احتضن يدها أكثر من اللائق، وأنها لم تسحب يدها كعادتها القديمة، بل بادرتني بنظرة فاحصة لترى ما فعله في الزمن.. نظرة شعرت أنها تسللت إلى أعماقي.. إلى داخل قلبي، ربما تبحث عن صورتها القديمة.
صدمتها صور النساء المعلَّقة على جدران هذا القلب (الذي كان ملكها يومًا ما) وملّ انتظارها، فقرر أن يتحول إلى (تاكسي أوبر).. يستجيب لمن يطلبه على تطبيق (الحياة).
استيقظت على صوت ارتطام هاتفي الجوال بالأرض، وتذكرت أني قضيت ليلتي الماضية أبحث عن (سكن جديد)، وأن الهاتف قد (فصل شحن)، فاستسلمت للنوم في أحضانه الفارغة.

(7)

أخيرًا امتلكت العود..
أخرَجته من حافظته الجلدية واحتضنته بشوق وحنين جارف.
أنا لا أعرف العزف عليه لكن أنوي التعلم..
أنا لا أحب النوتة الموسيقية والسلم الموسيقي، لا توجد مشكلة.. يمكن أن أتدرب سماعيًّا.
المهم أن تهتز الأوتار بين أصابعي، ويعلو صوتها الأخّاذ ليسعد روحي.
ربما جاء القرار متأخرًا، لكني لا أعرف المستحيل، هكذا ظننت بنفسي.
وقررت أن أبدأ رحلتي في العزف فورًا.
لكني تعثرت كالعادة عند صخرة السؤال المقيت: ما الفائدة؟
طريق جديد للهروب من الواقع أم أن دفاتري القديمة المكتظة بأحلام ساذجة هي فرصتي الأخيرة كي لا أموت من فرط التعاسة.
وضعت العود بجانبي وجلست أتأمله قبل أن أدور في ساقية كل يوم.. وأنساه.

(8)

أعاد صديقي (الشاعر) قراءة قصيدته (البنت اللي ما بتجيش) وهو يضحك ويداعب شعر رفيقته (البيروتية)، التي رمقتنا بنظرة حائرة واعتدلَتْ في جلستها، فأوضحتُ لها أن هذه القصيدة تخصني أنا.
غادرنا لبنان بعدها بأيام نكمل جولتنا العربية، ووصلنا إلى كازبلانكا في (طاكسي صغير)، وتذكرنا قصة (يونس) صديقنا (المصور) الذي تاه منا في تونس، ولم يخطر ببالنا أن الرحلة ستتوقف طويلاً في الرياض عند (ماما نورة) قبل أن تمر على دبي، وتضيع قصائدنا في غابة (الرقة).
كل ما سبق كان خيالًا نردده أنا وصديقي قبل 25 عامًا، ونحن نقطع شارع (جامعة الدول العربية) المصري الشهير في طريقنا إلى حي الصحافيين، حيث يوجد منزل شاعرنا الكبير عبد الرحمن الأبنودي، ومررنا يومها دون قصد بين شوارع المنطقة، التي تحمل بالمصادفة أسماء مدن وعواصم شهيرة.. لم نتوقع يومًا زيارتها.
لم نصل إلى الأبنودي، وضاعت القصيدة التي كتبنا فيها حلمنا.. لكن صار قدرنا الغربة في بلاد الله بين المدن والعواصم.
ورغم كل البنات والحكايات، ما زال صديقي يضحك عندما نتذكر البنت اللي ما بتجيش، ويؤكد لي أنها ستأتي ذات ليلة.

(9)

«لو ما بيفرقش معاك ضلمة من نور.. تبقى إما كفيف أو ضعيف».
قلتها في نفسي وأنا أداعب قداحتي وسط الظلام..
أشعلها ثم أُطفئها.. لعلي أشعر بفارق بين الحالين..
لم يُصِبني اليأس حتى شعرت بالحرارة تصهر أصابعي، فقذفتها بعنف بعيدًا، ولم أتنبه إلى أنها مشتعلة إلا عندما لامست أقرب قطع الأثاث إلي واحمرَّت النار وتأجج لهيبها.. وبدأ الحريق يتسلل إلى كل محيطي.. فجأة شعرت ببصيص ضوء يحرك بصيرتي وينير حياتي.. وتساقطت كل مشاهدي القديمة.. تحترق وسط النيران.
تسللت السعادة إلى وجداني أخيرا، قبل أن تفزعني زوجتي (الحكومة) التي دوّى صوتها قادمًا من الغرفة البعيدة: «بطّل لعب في الولاعة.. مش عارفة أنام.. وخلي بالك لتحرق لنا الشقة».
أغلقت (الولاعة).. واستسلمت للظلام.

(10)

أبحث عن فضاء غير عالمكم ..
أبحث عن الحقيقة بداخلكم..
لتحل السكينة بداخلي
أتلهف لأصل إلى شاطئ الحب
أترجى امرأة تعتصر قصتي وتحمل شطري الأخير
أصارع الطوفان بكل ما تبقى داخلي من أحلام
فتفاجئني وتخطفني على قاربها الصغير..
لأبحر بعيدا.. بعيدا
وأستيقظ من نومي الطويل
فأجدها تحتضني بأمومة فائقة..
طفلتي وابنتي وحبيبتي.. وصديقتي القادمة..
قبلتني.. وقالت: باباي .. أنت حلو: )
ونامت.

نرشح لك

محمد أبو شامة يكتب : دولة “خرقة” المطبخ

محمد مصطفى أبو شامة يكتب: «أفراح القبة» الحزينة.. كن ملاكًا