في عامنا الأول بكلية الإعلام جامعة القاهرة، عشنا كالدفعات السابقة شتاتا كان يعرفه الجميع ما بين الدور الرابع بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية ومدرج معهد الإحصاء خارج الحرم الجامعي، لكننا كنا محظوظين، فقد انتقلنا في العام الثاني إلى مبنى الكلية المجاور لكلية دار العلوم.
وقتها كان الدكتور فاروق أبو زيد الأب والأستاذ والصديق عميداً للكلية، عرفنا أنه أصر على أن يكون مدرج الكلية لا يسع إلا لمئة وخمسين طالب، تتفرق بهم الأقسام الثلاثة بعد ذلك (الصحافة والعلاقات العامة والإذاعة والتليفزيون)، ولما سألناه عن فلسفته في ذلك، قال إن الراغبين في دراسة الإعلام يزدادون كل يوم، وأعرف أن المجلس الأعلى للجامعات يمكن أن يفرض علينا أعدادا كثيرة، فجعلت الكلية لا تتحمل إلا عددا صغيرا، لأن سوق الإعلام نفسه لا يتحمل مزيدا من الخريجين، فإذا زاد عن المطلوب فسدت المهنة كلها.
حدث ذلك منذ سنوات طويلة، كان خريج الإعلام عملة نادرة، الكلية الأم في القاهرة، وقسم الصحافة بسوهاج وهو قسم عريق ومن خريجيه نجوم، وقسم الإعلام بآداب الزقازيق، وإعلام الأزهر الذي كان شعبة من شعب قسم اللغة العربية، وقسم الإعلام بالجامعة الأمريكية… وكفى الله المهنة شر الخريجين.
لم يمر على هذا التصور سوى سنوات قليلة حتى انفجرت ماسورة خريجي الإعلام.
كل كلية آداب أصبح بها قسم إعلام، وكل جامعة خاصة جديدة تفتتح كلية للإعلام.
حتى كليات التربية النوعية أصبحت تُلقي بكثير من خريجي قسم الإعلام التربوي إلى سوق الإعلام.
ولم تقف المصيبة عند هذه الحدود التى فاقت الاحتمال، بل توافد خريجو الإعلام المفتوح على أبواب الصحف، يطالبون بحقهم في أن يصبحوا صحفيين، وهم الذين لم يتلقوا أي تدريب أو تأهيل يرتب لهم حق أن يصبحوا من أبناء المهنة.
لن ألتفت هنا بالطبع إلى من يدخلون إلى سوق الإعلام من تخصصات أخرى، فهؤلاء في الغالب موهوبون، نداهة الإعلام تغلبهم، لكن بعد أن أصبحت المهنة مستباحة من خريجي كليات وأقسام ومعاهد الإعلام الذين ليس لهم في الطور ولا في الطحين، تجرأ على المهنة كل من لا مهنة له.
كان من الطبيعي بعد ذلك أن تصل مهنة الإعلام إلى حالة من الانحطاط والتراجع لم تصل إليها من قبل.
وكان من الطبيعي أيضاً يكون لهذا الانحطاط جذور.
واسمحوا لي أن أعود بكم إلى ما جرى، وأتوقف قليلا عند ثلاثة مفاصل أساسية، كل مفصل فيها يرتبط بفترة رئاسية.
الأول… عندما أمم عبد الناصر الصحافة بقانون أطلقوا عليه “تنظيم الصحافة” في العام ١٩٦١، تحولت الدور الصحفية في عرف الدولة إلى مؤسسات حكومية (لا فرق بين أخبار اليوم وباتا مثلا)، ولأنها أصبحت كذلك، فقد خضع التعيين فيها إلى تكليف الخريجين من قبل القوى العاملة.
تم توزيع خريجين من كليات مختلفة، لم يكن لهم أي علاقة بالمهنة للعمل في الصحافة، كانوا يتخبطون، ويسألون الصحفيين عما يجب أن يفعلوه، هؤلاء الذين دخلوا المهنة في العشرينات من عمرهم، ظلوا فيها حتى بدايات العام ٢٠٠٠، وأصبحوا بحكم الزمن قيادات، ولأنهم بلا كفاءة، مجرد موظفين حكوميين، فقد تحكموا في الموهوبين الذين دخلوا المهنة، وقتلوا الكفاءات عن عمد، حتى لا يزاحمهم أحد في مكاسبهم، وفي مقابل ذلك أتاحوا الفرصة لأنصاف وأرباع الموهوبين حتى يتمكنوا من التحكم فيهم، وبهذا فقدت الصحافة كثيراً من وقودها الحي.
الثاني… عندما بدأ السادات في صناعة معارضته على عينه، كوّن المنابر الثلاثة في العام ١٩٧٧، وهي المنابر التي تحولت إلى أحزاب أصدرت صحفا، وفي هذه الأحزاب تحولت الكوادر السياسية إلى صحفيين، ولأنهم كانوا كوادر فقد احتلوا المناصب القيادية في الصحف، وأصبحوا أصحاب الكلمة الأولى في اختيار الصحفيين، ولأنهم بلا كفاءة، فقد اختاروا المقربين منهم الذين يدينون لهم بالولاء، وهؤلاء في الغالب كانوا بلا كفاءة اللهم إلا كفاءة الإخلاص لمن منحوهم فرصة العمل، كان من بين هؤلاء من تقمصوا روح القيادات السياسية، فتحولت الصحافة على أيديهم إلى منشورات سياسية بلا قيمة.
الثالث… في بدايات العام ١٩٩٦، كان الصحفيون قد خاضوا معركة مقدسة مع النظام لإسقاط القانون ٩٣ للعام ١٩٩٥، وهو ما تحقق لهم بصدور القانون ١٩٩٦.
كان صفوت الشريف وقتها وزيرا للإعلام، لم ينس للصحفيين وقفتهم، وكان قراره الانتقام ليس من الصحفيين ولكن من الصحافة نفسها، ففتح الباب على مصراعيه لإصدار الصحف التي عرفت وقتها بالقبرصية.
في تلك الفترة شهدت الصحافة المصرية الهوان الكامل، سمحت الدولة لأصحاب الحرف بامتلاك صحف، كان صفوت الشريف يريد أن يقول للصحفيين: تعتقدون أنكم أصحاب رسالة تناضلون من أجلها، حسنا… سنضرب سمعتكم بطريقتنا.
تحولت الصحف على أيدي ملاكها الجدد من أصحاب الحرف إلى دكاكين، ابتزوا رجال الأعمال والفنانين والفنانات، وركعوا أمام كل من يملك مالا يمكن أن يدعم به هذه الصحف، التي تعامل معها أصحابها على أنها مجرد مشروع تجاري، يدر عليهم آلافا قليلة من الجنيهات كل شهر.
في تلك الصحف التي تعملقت خلال ثلاث سنوات على الأكثر، تم تشويه جيل كامل من الصحفيين، خرجوا منها معتقدين أن تلك هي الصحافة، كذب وخداع وابتزاز والعيش في بدروم المجتمع على فتات ما يتخلف عن أثريائه.
من بين هؤلاء جميعا، تخلقت تركيبة الصحفيين المصريين، يجاهد الموهوبون ليجدوا مساحتهم، يحاربون كل أشكال الفساد والوساطة والمحسوبية والرشوة، هؤلاء على قناعة تامة بأن الصحافة لا تصدر إلا من أجل الناس، لكن الغالبية العظمى ترى أن الصحافة تصدر من أجل الصحفيين، وليذهب القارئ إلى الجحيم.
يقولون إن أزمة الصحافة في مصر أنها بلا محترفين.
والحقيقة أنها في الأساس بلا صحفيين حقيقيين، الجهل الآن هو اللغة السائدة، وإذا عثرتم على عمل صحفي جاد ستجدونه بلا روح ولا إبداع.
التجارب الجديدة لا بريق لها ولا فيها، أصبحنا مقلدين، فلم تقدم الصحافة المصرية خلال العقود الماضية تجربة واحدة يمكن أن تقول إنها تجربة رائدة، كل ما جرى كانت محاولات فردية ترتبط بأصحابها لا أكثر ولا أقل.
نعاني من انحطاط مهني بلا حدود، لا شك في ذلك.
نعاني من تراجع حاد في كل ما تمثله المهنة من قيم وأخلاقيات… وهل يمكن أن ننكر ذلك؟
والسؤال: ما الذي خسرته مصر من هذا الانحطاط والتراجع والتدني في صحافتها وصحفييها؟
ستهز كتفك باستهزاء وسخرية، وتقول مصر لم تخسر شيئا، بل خسرت الصحافة.
سأقول لك بهدوء شديد: أنت مغفل، لأن مصر خسرت كثيراً عندما تحالف الجميع على صحافتها وحولوها إلى جثة هامدة، ولم تقف أنت ولا من يعملون فيها للدفاع عنها.
فقدت مصر جزءا كبيرا من قوتها الناعمة، وقفت تتفرج وصحافة العالم تنهش فيها، بينما صحافتها مشغولة بتوافه الأمور، لأنها لم تعد قادرة على التعامل مع الجاد منها، وإذا فعلت لا تنجح، وإذا نجحت سخرت أنت منها وتعاملت على أنها جزء من المؤامرة عليك وعلى البلد.
لا تحتاج الصحافة المصرية إلى نقد، بقدر ما تحتاج إلى هدم وبناء من جديد.
بناء يدخل بها عصرا بلا جهلاء ولا مرتشين ولا لصوص ولا أنصاف موهوبين ولا معقدين نفسيا ولا منحرفين أخلاقيا ولا منافقين للسلطان ولا خونة للأوطان.
وإذا قلت لي: هل تريد صحافة تصنعها الملائكة؟
سأقول لك: لا ملائكة على هذا الأرض.
وعليه… يظل الحال على ما هو عليه.
نرشح لك
محمد الباز يكتب: داعرون وعاهرات فى بلاط صاحبة الجلالة… وأنتم ماذا عنكم؟ (لماذا يكرهوننا 5)
محمد الباز يكتب: مندوبو وزارة الداخلية فى الصحافة (لماذا يكرهوننا 4)