محمد الباز يكتب: هذا ما قاله الحصرى و عبد الباسط عبد الصمد عن تلحين القرآن (القرآن في مصر 6)

لم ينفرد الفنانون الكبار بالحديث عن تلحين القرآن.

كان للمشايخ الكبار وجهة نظر ورأى، رأيت أن أفرد لها هذه المساحة، ليس بسبب أهمية كلامهم فقط، ولكن لأنه يعكس تصورا ووجهة نظر، لا يزال المشايخ يحملونها حتى الآن.

تغير كل شيء من حولنا، لكن الذهنية التى تحكم لم يطرأ عليها أى تغيير، لم تفتح نوافذها لتستقبل هواء نقيا، تجدد به شبابها، ولذلك لو طرحت السؤال نفسه عن تلحين القرآن على كبار مشايخنا اليوم، لقالوا نفس الكلام دون تغيير أو تبديل.

لا يمكن لى أن أتهم المشايخ بشيء، لا الذين قالوا، ولا الذين يمكن أن يقولوا الآن، فهم يعبرون عما يعتقدونه ويعتبرونه صحيحا، والخلاف معهم على أى أرضية لا يجعلنا نطعن فى دوافعهم، لكنه أيضا لا يمنعنا من أن نناقشهم، ونختلف معهم، ونشير إلى مواطن الخلل فى كلامهم، هذا إذا كان كان هناك خللا.

على أية حال هذا ما قالوه، إقرأه جيدا، ثم سيكون لنا وقفة بعده.

1- مفتى الجمهورية… دعوة لتشويه تلاوة كتاب الله

يقول الشيخ محمد خاطر مفتى جمهورية مصر العربية فى الفترة التى أثيرت فيها هذه القضية العام 1970: “العصرية لا يصح أن تكون ملاءة تتلفع بها دعوة إلى تشويه تلاوة كتاب الله، وأقل ما توصف به الدعوة إلى تلحين القرآن هو أنها حرام وتخالف أحكام الدين، فالحلال فى الدين بين والحرام بين، وباب الإجتهاد مفتوح فيما لم تنص عليه صراحة أحكام القرآن والسنة الشريفة”.

يفصل المفتى رؤيته، يقول: “للقرآن آداب دعت إليها السنة فى تلاوته وقراءته والاستماع إليه ومجالسه، وأحكامها فى هذا الشأن لا تترك بابا للخطل والخلط، ولا لما يتنافى مع التوقير والاحترام، والسنة أوضحت أن التجويد هو الصورة الشرعية لقراءة القرآن، وبدون التجويد بما فيه من ادغام وغنة ومد وإقلاب وإظهار وإخفاء، يكون أداء القرآن بطريقة أخرى حراما وخروجا على الدين.

ما قاله المفتى يحتاج إلى دليل، ولذلك قال: “هناك كتب معروفة مثل التحفة والجزرية والشاطبية توضح أحكام التجويد باسهاب ووضوح، فكل كلمة فى القرآن لها أحكام فى التجويد والمد، والتلحين سيخرج كلمات القرآن عن طبيعتها، ويزيفها عن مقاصدها، ويصرف الناس عن تدبر آيات القرآن إلى تدبر الدندنة التى تصاحبه أو تظاهره أو تختفى وراءه”.

ويضيف المفتى: “ثم إن التلحين معناه إعادة تقطيع الآيات وتشطيرها بحيث تنسجم مع النوتة الموسيقية، بعبارة أخرى: تطويع كلام الله للموسيقى، وليس تطويع الموسيقى لكلام الله، فهل هذه هى العصرية؟”.

ويختم المفتى كلامه بدعوة مخلصة تماما تتسق مع ما يقوله: “بالله عليكم اشجبوا هذه الدعوة، ودعوا الفتنة نائمة، وإلعنوا من يوقظها”.

2- الشيخ الحصرى… لا تلحنوه ولو فى القرن الثلاثين

شيخ عموم المقارئ المصرية الشيخ محمود الحصرى كانت له رؤية واضحة فى هذا المقام، يقول: “تلحين القرآن هو تجويده، بل إن تلحين القرآن لا يمكن أن يكون إلا بتجويده، وكلمة تلحين ينبغى ألا تضاف إلى كلام رب العالمين ولو فى القرن الثلاثين، فالتجويد ينبثق من صلب القرآن، ولا تلحين إضافة له، ولو سمحنا به فقد يجوز فيما بعد إضافة كلمات إلى القرآن، ويكفى أن يكون المنع من هذا المانع.

الرؤية هنا واضحة جدا، بها منطق، ولها مبرراتها، لكن الشيخ الحصرى يستطرد.

يقول: “إن تجويد القرآن هو طريقة أدائه المثلى التى تلقى بها الرسول الكريم الوحى من جبريل، ومن حدود أدائه ما جاء بالآية الكريمة: *لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرءانه فإذا قرأناه فاتبع قرءانه ثم إن علينا بيانه*، فالله علم الرسول كيف يقرأ، والرسول علم الصحابة كيف يقرأون، والصحابة لقنت المسلمين جيلا بعد جيل إلى الآن هذه القراءة وعملوا لها ضوابط وموازين، حتى أن الإنسان لا يخرج عنها قيد أنملة”.

يصل الشيخ الحصرى إلى النقطة الأهم فى هذه القضية، يقول: إن إضافة الوزن الموسيقى إلى القرآن تحيله إلى كلام منغم وتنفى التأثر به، يقول الله تعالى “ورتل القرءان ترتيلا”، والقرآن من 14 قرنا يفهمه الناس ويتدبرون معانيه بترتيله وتجويده حسبما تقتضى قواعد السنة، فهل نجيء بعد 14 قرنا نحاول أن نمس قداسته بإخضاعه لما يخضع له أى كلام منظوم”.

يأتينا الشيخ الحصرى بما هو أكثر، يقول: “هناك من يعترض على بعض القراء الذين ينحون منحى التطريب، مع عدم اخلالهم بالتجويد وقواعده والترتيل وجلاله، فإذا كان التطريب يثير الاعتراض باعتباره يجور على القداسة، ولو مثقال ذرة، فماذا عسانا نقول فى التلحين والعياذ بالله؟.

3- عبد الباسط الصمد… القرآن يلحن فعلا لكن بحدود

كلام الشيخ عبد الباسط عبد الصمد كان مختلفا بعض الشيء، يقول إنه من المستحيل عملا وعقلا الجمع بين تطبيق القاعدة الموسيقية والقاعدة التجويدية القرآنية، ويستحيل التوفيق بينهما، لأن الإنسان إذا حاول أن يلحن آية من آيات القرآن بأية نغمة من النغمات مع ملاحظة ما لهذه النغمة من أصول وقواعد، لابد أن يخرج على قواعد التجويد والقوانين التى رسمها علماء القراءة، وإذا أراد أن يراعى قواعد التجويد والأداء وما وضعه علماء القراءات من أحكام فلابد أن يشذ عن القواعد الموسيقية.

يحسم الشيخ عبد الباسط الخلاف، فيقول: وكل من يدعى خلاف ذلك فهو يجانب الصواب، وليس معنى هذا أننا لا نبيح قراءة القرآن بمقتضى القواعد الموسيقية، فإن لكل إنسان أن يقرأ ما يشاء من الآيات بنغمة من النغمات كالصبا والسيكا والحجاز، وما إلى ذلك ما دام يلاحظ فى قراءته أن الأساس هو قواعد التجويد، بحيث لا تطغى النغمة على تلك القواعد، ثم إن التلحين يستلزم تطويع نطق بعض آياته وألفاظه لما يخالف شريعة النطق بالكلمات القرآنية المقدسة، والله كفيل بأن يحفظ القرآن من فتنة التلحين، فهو القائل وأكرم به من قول *إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون*.

4- الشيخ الباقورى… خروج على الأدب مع الله

يرى الشيخ أحمد حسن الباقورى أن فصل النزاع فى قضية تلحين القرآن على ما يرى أهل العلم، هو أن التطريب والتغنى على وجهين.

الوجه الأول: ما اقتضته الطبيعة بغير تكلف إلا فى الحدود التى قالها أبو موسى لرسول الله صلى الله عليه وسلم: “لو علمت أنك تسمعنى لحبرته لك تحبيرا”، فهذا جائز ولا بأس به، وقد أقر النبى أبا موسى عليه.

الوجه الثانى: ما كان من ذلك صناعة من الصناعات وليس فى الطبع السماحة به، فهو لا يحصل إلا بالتكلف، وتصنع وتمرن كما يتعلم المرء من أصوات الغناء بأنواع الألحان البسيطة والمركبة، فهذا هو الذى كرهه السلف وعابوه وذموه ومنعوا القراءة به”.

يأتينا الباقورى بما لا نتوقعه هنا، يقول: وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أذن الله لشيء كما أذن لنبى حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به، فكلمة أذن بالذال معناها الاستماع والإنصات، كقولهم “حدثته فأذن لى”، يعنون أنه استمع له، ومن ذلك قول الله تعالى *إذا السماء انشقت وأذنت لربها وحقت*… أى أنصتت.

ويستند الباقورى على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فيقول أنه رضى الله عنه قال لأبى موسى الأشعرى: ذكرنا ربنا، فيقرأ أبو موسى ويتلاض، يعنى يتغنى، بدليل قول عمر: من استطاع أن يتغنى بالقرآن غناء أبى موسى فليفعل”، وكان أسلافنا الصالحون يتتبعون الصوت الحسن فى المساجد فى شهر رمضان، وكان أبو حنيفة وأصحابه والشافعى ويوسف بن عمر يستمعون القرآن بالألحان، وفى هذا يروى شيخ المفسرين ابن جرير حديث: “ما أذن الله لشيء ما أذن لنبى حسن الترنم بالقرآن”.

ما الذى يعنيه شيخ المفسرين هنا؟

الكلام لا يزال للشيخ الباقورى، يقول: “وقال شيخ المفسرين: ومعقول عند ذوى العقول أن الترنم لا يكون إلا بالصوت إذا حسنه المترنم وطرب به، وهذا الحديث من أبين البيان”.

لا تزال فى جعبة الباقورى باقية، فلابد – كما يقول – من ملاحظة أمرين، لكى يزول ما عسى من لبس فى هذا الحديث.
أحدهما: أن الترجيع والتطريب لا يقصد بهما الخروج عن الصورة المألوفة عند علماء التجويد، وأحسن مثال لذلك يرجع إليه الناس ليعرفوا الحد المشروع هو قراءة الشيخ رفعت، والشيخ الشعشاعى رحمهما الله، وقراءة أحياء القراء الذين ينهجون نهجمهما أطال الله حياتهم.

وثانيها: أن مسلما عاقلا لا يفهم من الألحان ما نفهمه نحن منها اليوم فى عصرنا الحاضر، كما أن مسلما عاقلا أيضا لا يتصور جواز قراءة القرآن بمصاحبة الموسيقى، فإن هذا من الخروج على أدب الله بالمكان المكين.

5- خالد محمد خالد…نقرات طبل مع آية الانفطار

هذا واحد من أحب الكتاب إلى قلبى، ليس لأنه محترف بما يكفى، ولكن لأنه صادق بما ينبغى، تعود طوال حياته الممتدة من 1920 إلى 1996، ألا يتحدث خارج كتبه، لكنه هذه المرة وربما لأهمية القضية تحدث.

أشار خالد فى بداية كلامه إلى حديث النبى صلى الله عليه وسلم “اقرأوا القرآن وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا”… يقول: يريد الرسول الكريم بهذا المنهج فى أغلب الظن أن يؤكد خشوع النفس وهى تتلوا آيات القرآن، ذلك اللون من الخشوع الذى يمس شغاف القلب ويستدر الدموع.

يواصل خالد: القرآن يتلى ولا يتغنى به، ولا تتخذ عباراته وآياته وكلماته وسائل للتطريب، والتلحين معناه عمل ضوابط للإيقاع أو التعبير عن أدائه بطريق النوتة الموسيقية، والمشكلة أن للقرآن قواعد فى تلاوته، يفصلها علم التجويد الذى هو فى الحقيقة علم وفن، ومن الطبيعى أن يحدث تناقض بين ما يقضى به التجويد، وبين ما قد تتواخاه النوتة الموسيقية، دعك من الجلال الذى ينبغى أن تحاط به آيات الله، ذلك الجلال الذى يعد جزءا من الرسالة.

يقفز خالد إلى فكرة أخرى، يقول: الأخذ بمبدأ التلحين معناه إسناد هذه المهمة إلى عديد من البشر وعديد من الأذواق وعديد من الإتجاهات، وهب أن واحدا توخى أو زعم أنه توخى ما لآيات الله وكلامه من توقير ومهابة، فكيف لنا أن نضمن أن يتوخى الجميع ذلك، وكيف لنا أن تهجع قلوبنا إلى أن آيات الله البينات تظل مسيطرة على ما قد ينحو إليه التلحين من أغراب، بدلا من أن يمعن التلحين فى أغرابه إلى حد السطيرة على ألفاظ الله.

يضرب خالد محمد خالد مثلا على ما يريد أن يقوله، فيأخذ آية *إذا السمآء انفطرت*.

يتساءل: ماذا عساه أن يفعل بها سيد الملحنين، اللهم إلا أن يلحقها ويسبقها بنقرات طبل ذى صدى، تعبيرا عن الرهبة التى تلابس الانفطار؟

و يتساءل: هل معانى القرآن فى حاجة إلى مثل هذه المؤثرات لكى تستقر فى أعماق القلوب.

*****
القضية منتهية إذا.

فتحنا القوس بكلام كبار الفنانين (أم كلثوم وعبد الوهاب والسنباطى)… ثم سجلنا كلام كبار المشايخ والمتخصصين، وبينهم من لا يمكن اتهامه بالانغلاق.

لم يفند طرف منهم كلام الطرف الآخر.

قالوا ما لديهم، معبرين ليس عن أفكارهم فقط، ولكن عن إحساسهم أيضا.

وضع المشايخ التحريم فى وجه الجميع، حرصا منهم على قداسة كتاب الله الأعظم، لا يريدون أن يقترب منه أحد.
لم يفعلوا ذلك بتعنت، ساقوا أدلتهم العقلية، التى من المهم أن ننصت إليها، أبدوا غيرتهم على القرآن، دون أن يغلقوا الباب فى وجه أحد، قالوا إن آيات القرآن لا تحتاج إلى تلحين، لأن التجويد بالفعل أقرب ما يكون إلى التلحين، لكنه تلحين مختلف عما يفعله الموسيقيون، وعليه فلا أهمية لفتح هذه القضية من الأساس.

لكن هل سينتهى الجدل حول هذه القضية؟

أعتقد أنه لن ينتهى أبدا، فهى من بين القضايا الجدلية المتكررة، وأعتقد أكثر أن القضية فى أساسها ليس دينى، فلسنا فى محل البحث عن أدلة تجيز تلحين القرآن فى مقابل أدلة تحرم ذلك، ولكننا أمام قضية السطوة الدينية، احتكار فئة بعينها لكل ما يخص الدين، وليتهم يفعلون ذلك بتعقل، بل يقدمون عليه وهم يرفعون راية التحريم والنار فى وجه كل من يخالفهم الرأى والتوجه.

****
وهنا لابد أن ندخل بالكهنة إلى مواجهة مختلفة.

إذا كنتم ترفضون أى تعامل عصرى مع القرآن الكريم، فهل ترضون عما وصل إليه فى السرادقات والمآتم؟
هل يعجبكم ما يفعله المقرئون الجدد بالقرآن؟، فلا أصوات جميلة، ولا اتقان لفنون التجويد، ولا فرض حالة من التوقير والتقديس لكتاب الله وهو يقرأ.

وإذا أنكرتم شيئا من هذا، فليس عليكم إلا أن تذهبوا إلى أى سرادق عزاء، لتقفوا على ملامح إهانة القرآن الكريم شكلا وموضوعا.

أعتقد أن المشايخ يتغاضون عن هذا الشكل من التعامل المهين مع القرآن الكريم، لأنه تعامل يخرج من بنى جلدتهم، يغضون الطرف عنه، لأنهم يعرفون أن القرآن تحول إلى مصدر رزق، وسيلة للتكسب، لكن هذا لا يمنعنا من اتهامهم وبشكل صريح بأنهم مسئولون عن الحالة المزرية التى وصل لها المقرئون ومن يعملون على القرآن.

قراءة القرآن فى سرادقات العزاء ليست فرضا دينيا، مجرد طقس اجتماعى، لا يمكن أن أطالب مثلا بإلغاء هذا الطقس، ففوق أن الموت لا يكتمل فى مصر إلا بطقوس العزاء رغم أن كثيرا منها ليس أكثر من نفاق اجتماعى، إلا أنه يفتح بيوتا كثيرة، لا يمكننى أن أتحمل أزمات أصحابها، فى ظل ظروف اقتصادية صعبة.

الأمر إذا ليس من أجل القرآن كله، وعليه إذا أراد من يرفضون أى اقتراب من القرآن بحجة الخوف عليه، أن يحرروه من الإساءات التى تلحق به على يد مقرئون جهلة، لا يقدرونه حق قدره، ولا يعملون على إتقانه كما ينبغى.

تلحين القرآن أو عدم تلحينه ليست القضية الكبرى.

ظهرت كثيرا ثم خفتت.

وأعرف أنها ستظهر بعد ذلك وسرعان ما ستخفت.

القضية الحقيقية أن هناك من يدافع عن القرآن بعنف، وهو يقف – يدرى أو ربما لا يدرى – خلف أكبر إساءة له.

 

نقلاً عن البوابة

 

نرشح لك

محمد الباز يكتب: تلحين القرآن… أم كلثوم ترفض والسنباطى يتحفظ وعبد الوهاب أنا مستعد (القرآن في مصر 5)

بالساعة والدقيقة.. مواعيد مسلسلات رمضان 2016

شارك واختار من النجم الأفضل في إعلان فودافون رمضان ٢٠١٦؟ اضغط هنـــا

بنر الابلكيشن