في قاعات كلية الإعلام، كان الدرس الأول “لا بد أن تسبق الجمهور بخطوتين، لا تقف معه على خط واحد، لا تنفعل انفعال القارئ، لا تضع نفسك بين المتفرِّجين، اسمع منهم ولا تتأثر.. اخلع نفسية جمهور الدرجة الثالثة قبل أن تكتب أو تعد برنامجك، أو تقدم رسالتك، فأنت – هنا – لست متلقيًا”.
غرقت الفضائيات بإعلان “جهينة” واستفز “السوشيال ميديا”، وهاجت ناشطات حقوق المرأة لاستعماله لفظ “الداندو” على لسان رضع في إشارة لـ”صدر الأم”، وفضَّل الكلّ أن يقف في منطقة الغليان.
لا أحد سبق الجمهور بخطوتين، أو خلع نفسية جمهور الدرجة الثالثة الموهوم وينفّس جهله وعصبيته ومواقفه المجانية علي “فيسبوك” و”تويتر”، ولا يداري هوسه بالتابوهات، واللايكات، والجمل الأخلاقية اللزجة.
لعبت “جهينة” على وتر الحنين إلى الماضي (إلى الداندو!)، لم تقصد قلة الأدب أو إهانة المرأة، كل فئة أخذت من الإعلان ما يخصها، النسويات اعتبرنه إيحاء جنسيًا، المحافظون اعتبروه وقاحة، الشباب أضافوا اللفظ إلى قواميس السخرية، نشطاء وسط البلد احتسبوه عند الله سحقًا لتابوه فشلوا في كسره بشعارات الحريّة، والخروج من شرنقة الأدب وقلة الأدب، والمتحرشون كسروا الملل بمعاكسة جديدة ستملأ الشوارع وتتحول إلى موضة وتنتهي بظهور موضة جديدة.
الكل يجهز مدفعيته الثقيلة للدفاع عن اللفظ أو مهاجمته.. ولا أحد سينسي “الداندو”.
إحدى المهتمات بحقوق المرأة ذكرت دراسات تؤكد إن التعرض لمواد إعلانيّة شبيهة يضع المرأة في قالب، ويحدد مقاييس للأنثى المثالية.. والتي لا تتمتع بالمعايير “المتفق عليها” تفقد ثقتها في نفسها.
تقصد “الفيمينيست” – بصراحة – إن “الفلات” التي لا تملك “داندو” قويم ورشيق ونافر وكبير سيعرضها إعلان “جهينة” لآلام نفسيّة سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وعندها حق. بالنسبة لعالمها الضيّق عندها حق، وستجد مئات اللايكات تطاردها كل ليلة.
مهتمة أخرى بحقوق المرأة – أقل تعصبًا – لها رأي مختلف، قالت إن الغضب من إفيه “جنسي” – على سبيل الهزار – نزعة محافظة تقف ضد دعوات الحرية، ومصنع النكت في العالم يقوم على تابوهات الجنس والدين والسياسة. تقول – بصراحة – إن “الفيمينيست” المتعصّبة متخلفة، وتقف ضد الحرية، لأن لا أحد سيخلع نفسية العبيد التي تحاصره وتحاصرنا جميعًا من كل اتجاه إلا بالسخرية، والمعارضة، والجنس.
بالنسبة لي، الخلاف بين النسويتين دليل على حيوية الحياة في مصر، هناك من يقوم بدوره في الشتيمة والزعيق والتهويل لكي يثبت وجوده، وهناك من يثبت وجوده بكمية أقل من الزعيق والشتيمة والتهويل، والحياة “ماشية” لا تقف على أحد.
كلام النسويتين حين يصطدم بالواقع البعيد عن التنظير، ولا يعرف إلا لغة المال، ويتعامل مع كل شيء في الحياة باعتباره سلعة سيصبح “صفر على الشمال”.
والواقع – هنا – هو الإعلان، الذي لا مِلّة ولا مبدأ ولا مذهب له، يبيع ويشتري في الدين والجنس والمرأة لمن يعرض أعلى سعر ممكن.
والسؤال الآن.. هل نجح إعلان “جهينة”؟
نعم، والدليل إن ماكينة النقد والمدح والذم والمقالات وماسورة النقاش انفجرت حوله فمنحته فرصة الحياة والعرض لفترة أطول، وطبع اسم المنتج في العقل الباطن للمستهلك، فلم يعد في حاجة إلى إعلان يذكِّره باللبن الصناعي.. لأن كل الناس الآن ماكينات دعاية للبن “جهينة”، بداية من المتحرَّش حتى الكاتب الصحفي، الذي يكتب مقاله الآن، ويلملم أشلاء قراءه بهدوء.
الرواج بقوة دفع الجمهور يسميword of mouth، فالإعلان لم ينتشر بكثرة عرضه، إنما بقوة من نشروا فكرته، وتبادلوا النقاش عنه، وصنعوا القلق حوله، حتى “الفيمينيست” التي تعارض لفظ “الداندو” وتهاجمه على السوشيال ميديا باعتباره تحريضًا على التحرش وانتهاكا لخصوصية المرأة موظَّفة بلا أجر عند صاحب الإعلان.
النقطة الثانية، أن الإعلان ترك أثرا في دماغ الجمهور، وتحديدًا عقله الباطن، حتى إذا سمع من يقول “لبن صناعي”، أو “لبن أطفال” يأتي في ذهنه “الداندو” الذي كان في إعلان “جهينة”، ويتحوَّل المنتج – من وجهة نظره – إلى سلعة واحدة.
كأن تقول بدلًا من مياه غازية: “هات لنا بيبسي”.
تحوّل البيبسي – بكل تاريخه – من مجرد سلعة إلى المنتج كلّه.. وتكرار اسمه دعاية يوميّة “غير مدفوعة الأجر”.
بفضل كتائب الهجوم على “الداندو” صنعت “جهينة” بروباجاندا ضخمة خرجت من حدود السوشيال ميديا إلى المواطن العادي، الذي اكتسب كلمة جديدة ستظلّ مرتبطة في ذهنه بـ”اللبن الصناعي”.
لم تقصد الشركة “قلة الأدب” أو التحرش، فالمتحرشون ليسوا في حاجة إلى ألفاظ وأوصاف جديدة.. كفاهم الله ما عندهم، وكفى المؤمنين شرّ التحرش.
المعلن يضع في أجندته هدف أهم وأبقي.. “إعلان يعلّم مع الناس”.. ونجح، ودخل مخترع مصطلح “الداندو” التاريخ، وانتفخ حسابه في البنك بملايين سيفشل في عدّها بينما لا يزال المتحرش يتتبع البنات في الشارع، ولا تزال صديقتي الفيمينيست تفرد عضلاتها النسوية على مجاذيبها، وتحارب طواحين الهواء علي مكسب وهمي لا هي تعرفه ولا أحد يعرفه، وتكسب فولورز جددًا، وتغرق في وحل مجتمع “مهزوم” لن يلتفت إلى نضالها الاليكتروني لأنه لا يملك “سمارت فون”.. و”الحياة ماشية”!
نرشح لك
بالساعة والدقيقة.. مواعيد مسلسلات رمضان 2016
شارك واختار أي من هذه البرامج أو المسلسلات تتابعها وقت الإفطار؟ أضغط هنـــا