المشهد كالتالي الساعة في حدود السادسة مساءا في عز الشتاء من أعلى كوبري أكتوبر –المعروف بجراج مصر- السيارات لا تتحرك،الجميع تبدو عليه علامات التأفف والضجر يريد أن يترك هذا الزحام الممزوج بالإحساس بالبرد الشديد ، ما قد يشعرك بالتسلية ويضيع وقتك حتى ينتهي الزحام هو أن تستمع للراديو .
حين قررت أن أخذ جولة في محطات الراديو لأقرر أي محطة سأستقر عليها وأسمعها ،أخذت القرار بحكم المستمعة وليست العاملة في المجال الإذاعي ..مررت بين الإذاعات في هذا الوقت دون أن أجد ما يشدني أو يجذبني في تلك الفترة المعروفة بساعة الذروة الليلية ،أغلب البرامج وجدتها تتحدث في إطار “علينا أننا نشتغل كويس الفترة الجاية عندنا تحديات مهمة في الوطن “وبصوت جهوري “عندنا تحديات ..تحديات مهمة يا جماعة ” ..وماذا بعد ..خلاص والله عرفت ماهذا الرعب !..بالله عليكم أهذه موضوعات ولهجة تصلح لأن تُقدم لشخص مُنهك بعد يوم طويل في عز الزحام ؟!!
هذه لم تكن العينة الوحيدة التي أبهرتني ،فهناك عينة أخرى سمعتها لمذيعين في برنامج أخر،المذيعة توجه حديثها لزميلها وأنت فطرت إيه الصبح ؟..لا بس خد بالك الفطار في الشتاء مهم جدا ..لازم تهتم بيه ..أنتم كمان قولوا لنا فطرتم إيه وإيه بيدفيكم في الشتاء وبيديكم طاقة في فطار الصبح ..الكلام ده الساعة كام ..6:30 المغرب ..ماعلينا قلت لنفسي قد يكون لينك ( أي مجرد فقرة) أو 2 على الأكثر وكانت الفاجعة حينما علمت أن هذا هو موضوع الحلقة !!
بعد تلك التجربة قررت إغلاق الراديو لأنه لم يسلي الوقت الذي أقضيه على هذا الكوبري اللعين ، فرق كبير بين أن تستمع لما تُعده لكي يتم تقديمه في الإذاعة وبين سماعك للإذاعة لكونك مستمع فقط ،ليست كل الموضوعات محل نقاش في أي وقت ،فتحديات الوطن وصعابه التي أقدرها وأثمن قيمة العمل على تخطيها ليست مناسبة أبدا للمناقشة في وقت زحام والناس بحاجة لمن يهون الزحام لا لمن يصعبها عليهم بكلام ثقيل .
أزمتنا كعاملين في مجال صناعة الإعلام أننا بشكل كبير نعتمد على رغباتنا ونشبعها بشكل كبير ،قلما تجد وسيلة إعلامية تتجاوب مع المُتلقي لتسأله ماذا تريد أن تشاهد أو تسمع أو تقرأ ..أغلبنا نتعامل بمبدأ الوصاية على المُتلقي .. والنتيجة تكرار في الموضوعات يصيبك بالفتور …الإذاعة بحاجة ماسة إلى تطبيق مبدأ “ما يطلبه المستمعون ” أكثر من أي وسيط أخر ،لسبب بسيط فأغلبنا يقضي معظم الوقت في الشارع يستمع لمحطات مختلفة ،وتطبيق ذلك ليس بمنطق ما تريد أن تسمعه عزيزي المستمع من أغنيات ..بل النزول للأرض لتكوين معادلة بسيطة من شقين: من هو جمهورك وأعمارهم ،لتعرف ما يطلبوه ويريدوه .