المأساة الانسانية لا تسقط بالتقادم، ولا يمكن تجميلها بعمل فني، لسبب أو آخر ، قد تكون “المأساة” مادة لاعمال سينمائية ودرامية عظيمة، بحيث يمكن الانطلاق منها لبناء الفكرة والسيناريو، ولنا في المأساة الألمانية خير دليل، حين انطلق كتاب السيناريوا الألمان (بُعيد الحرب الكونية الثانية) لصناعة أفلام ومسلسلات خالدة، تناقش كل أبعاد تلك التراجيدية الحربية، كما أرخ المخرجون اليهود لمأساتهم “الهولوكوست” بشكل جعل منها المادة الأكثر ثراء وحضورا في مخيلة العالم سواء اتفقنا أو اختلفنا حول طريقة المعالجة و المبالغة في تجسيد معالمها !
والواقع أن الكتابة لهكذا قضايا لا يتطلب الالتزام الحرفي بما حدث،باعتبار ان العمل السينمائي او الدرامي له ضروراته الفنية، و هو ليس عملاً تاريخيا دقيقا بالمعنى الأكاديمي للمفردة، لكن من المهم أن تبدو المعالجة للواقعة التاريخية أمينة في تناولها، ولا تساهم في عملية تزييف الوعي الجمعي بكل أبعاد الواقعة، سواء بالسخرية منها او محاولة التقليل من تداعياتها التراجيدية، او بطمس بعض معالمها الرئيسية، لأن ذلك يدخل في إطار “التضليل والتزييف”، وهو ما وقعت فيه العديد من الأعمال الفنية لأهداف معينة كما هو الحال بالنسبة لبعض الأفلام السينمائية الامريكية التي تناولت حالة الحرب في الفيتنام، وقد نالت حظها من النقد والهجوم و أُعتبِرت حالة من حالات التزييف وجزء من عمليات البروبجندا التي توظفها وسائل الانتاج الاعلامي والفني لخدمة أهداف سياسية .
قد تكون هذه الخلفية مدخلاً لقراءة وفهم ردود الفعل الغاضبة على مسلسل “المغني” الذي يقوم الكينج محمد منير بتجسيده، في مزاوجة بين سيرته الشخصية و الأحداث التي رافقت بروزه كفنان، وبين الاوضاع السياسية والثقافية والفنية التي مرت بها مصر خلال العقود الماضية وصولا الى اليوم.
والواقع ان ردود الأفعال التي تعاظمت على وسائط التواصل الاجتماعي خلال الأيام الماضية، تميزت بتركيزها على الحلقة الخامسة من المسلسل، (موضع الجدل) حيث عالج كاتب السيناريو “أزمة التهجير” التي تعرض لها النوبيون في ستينيات القرن الماضي لبناء السد العالي، بنوع من السطحية الواضحة، دون الغوص في تفاصيلها” كمأساة إنسانية ” بكل معانٍ الكلمة، بل وبدا المشهد كأنه كرنفال او رحلة نيلية ترويحية، استصحب فيها المخرج، اغنية تراثية نوبية غالبا ما تستدعى من الذاكرة في الأفراح أكثر من قدرتها على التعبير عن مأساة كالتهجير القسري، -عوض أن يعتمد على اغاني كثيرة تعبر عن تلك الحالة كأغنية أباياسا الشهيرة مثلا -! كما ركز المخرج عدسته على ما حمله أحد الأطفال من متاع، وهي صورة الرئيس جمال عبد الناصر الذي تم التهجير في عهده، حيث يحرص والد الطفل على تنبيهه بضرورة حمل صورة “الزعيم” كدلالة على موافقة المُهجريين على قرارات الزعيم التي قضت بمغادرة أراضيهم وقراهم التي أبتلعها السد، وهو مشهد صادم للذاكرة الجمعية النوبية التي ظلت تُحمِل في الغالب “الرئيس عبدالناصر ونظامه” مسؤولية التهجير -غير المدروس بشكل كاف- وتداعياته الانسانية والمادية المُكلفة، حيث لم يكتف نظامه بالتهجير وبناء السد فحسب، بل تجاهل مطالب النوبيين في العودة والتي كانت مضمونة بتعهدات رسمية تم النكوص عنها لاحقا !
حالة الجدل التي صاحبت “المغني” لم تتوقف عند هذا المشهد الدرامي الصادم، بل وصلت الى حد اعتبار محمد منير مناقضا لنفسه ولتاريخه الفني والإنساني، والمساهمة في “تزييف التاريخ” لخدمة أهداف سياسية معينة، حيث سبق وان انتقد الفنان نفسه، مشروع إقامة السد العالي وتهجير النوبيين، بأشد العبارات ولام القائمين عليه (نظام عبدالناصر) وقال بالحرف الواحد في برنامج تلفزيوني مع عمرو الليثي”انه بعد أن كبر وقرأ دراسات عميقة تأكد ان المشروع لم يكن يستحق كل هذه التضحيات، ولم يكن مطلوبا في ذلك التوقيت وبتلك الصورة وان تداعياته السلبية كانت أكبر من جدواه الاقتصادية والأمنية ..الخ” ( الحوار موفر على اليوتوب – برنامج واحد من الناس ) !
وهنا يكمن السؤال حول دواعي موافقة “منير” على اداء عمل درامي يتناول “التهجير” بهذه السطحية والارتجال،. حتى ان لم تكن تلك “القضية” هي جوهر وعنوان الحدوتة، سيما وان الكثير من محبيه ظلوا يربطون بين حبهم له وبين ارتباطه بمواقف معينة وعلى رأسها معارضته لمأساة التهجير !
وبالرغم من وجاهة الطرح المتعلق بضرورة فض الاشتباك بين الوقائع والأعمال الفنية، فان الموافقة على انتاج عمل درامي يحكي بالأساس “سيرة ذاتية” لفنان يؤدي الدور بنفسه يتطلب عناية أكبر في اختيار المشاهد، خاصة عندما يتعلق الامر بآلآم كبرى بحجم فقد ارض، سيما من من اشتهر بأغنيات ك “ما نرضاش تهاجر الجذور أرضها” وحفر عميقا في وجدان محبيه أغنيات الألم والتغريبة النوبية ك ” أبياسا أبا فيسكنا” التي ترثِ حال الوجع الذي خلفه قرار التهجير، -حسب ما يرى الكثير من النوبيين – الذين ظلوا يرون في منير صوت ضميرهم العالي، قبل ان يتفاجئوا به يتناول هذا الحدث الجلل بهذه !
على المستوى التقني جاء مشهد التهجير خالياً من أي معالجة فنية ذات حس إنساني، لم نشهد مثلا دموع الراحلين او سخط الغاضبين على هجر الديار، ولعل حالة الغضب الوحيدة التي التقطتها عدسة المخرج، كانت لرجل تأخرت زوجته عن الموكب لتنظيف البيت ! فضلا عن هيئة الباخرة التي أتت لنقل المُهجريين و التي بدت في العمل كما لو كانت شبية ب ” نايل كروز او موفنبيك رويال ” السياحيتين، دون التوقف عند القرار غير الموفق لكاتب السيناريو الذي لجأ الى إعتماد اللهجة الصعيدية في الحوار بدلا عن اللغة النوبية التي اختزلها في الأغاني، في حين كان حضورها ضروريا على الأقل في حوار “العُمد وأعيان النوبة” وهم يناقشون قرار التهجير، وكذلك بالنسبة للمرأة المُسنة التي تحاور منير وتتبادل معه أطراف الحنين حول النوبة الغريقة، مع توفير الترجمة مثلا ! او حتى الاعتماد على العامية المصرية باللكنة النوبية المعروفة كما هو حال العديد من الأفلام المصرية التي أدرجت شخصيات نوبية، او تلك التي ناقشت التهجير، كفيلم ” النيل والناس” وهو فيلم مصري فرنسي مشترك، تناول التهجير بأبعاده الانسانية والمادية .
وفي ظل هذا اللغط الكبير الذي اثاره “المغني” والتساؤلات الكبرى التي رافقت العمل بدت اغنية التتر لدي قطاع كبير من محبي الكينج “مجرد فرضية”، حين يشدو منير “انا المغني اللي عوّد صوته على قول الحقيقة.. لا عمري أبدا خنت فني ولا فني خاني” وأضحى البعض منهم يطرح على مواقع التواصل الاجتماعي، مدى تطابق هذه الاغنية مع مضمون بعض المشاهد المنافية للحقائق – كما يرونها -، ويبقى السؤال الأهم هل سيتدارك منير بفطنته آثار هذا الجدل، سيما وان العمل لا يزال في طور التصوير وبالتالي يضيف مشاهد لاحقة تعالج الإخفاقات التي اثارت غضب متابعيه ؟!
نرشح لك
بالساعة والدقيقة.. مواعيد مسلسلات رمضان 2016
شارك واختار أي من هذه البرامج أو المسلسلات تتابعها وقت الإفطار؟ أضغط هنـــا